متى تم إبرام العقد وتوافرت فيه الأركان والشروط التي يستلزمها القانون فإنه يرتب آثاره القانونية والمتمثلة في نفاذ أحكامه في حق طرفيه، ويصبح لزاماً على كل منهما أن يبادر إلى تنفيذ الالتزامات التي تقع على عاتقه، ويتم تنشيط الجزاء الذي يتم توقيعه على أي طرف منهما لا يلتزم بأداء واجباته واحترام ما يفرضه عليه العقد، وذلك جميعه يتشكل منه ما يعرف بمبدأ القوة الملزمة للعقد، ولكن تلك القوة الملزمة هي قوة نسبية بحيث تقتصر في إلزاميتها على طرفي العقد فقط، وهذا أيضاً ما يعرف بمبدأ نسبية العقد.
إلا أن هذين المبداين – القوة الملزمة للعقد ونسبية العقد – لا يقصد بهما أن آثار العقد لا تمتد إلى الغير، فإن ذلك وإن كان صحيحاً بشأن عدم جواز إخضاع الغير الأحكام العقد الذي لم يكونوا طرفاً فيه وتحميلهم بالتزاماته، إلا أن ذلك لا يحول دون التزام الغير باحترام هذا العقد باعتباره ينشيء وضع قانوني نافذ في مواجهتهم وهو ما يعرف بمبدأ حجية العقد، وهذا
المبدأ سيكون محل تناولنا في هذا المقال.
أولاً: المقصود بمبدأ حجية العقد
ثانياً: تطبيقات مبدأ حجية العقد في القانون الأردني
ثالثاً: شروط قيام مسؤولية الغير عن مخالفة مبدأ حجية العقد
رابعاً: التكييف القانوني المسؤولية الغير عن مخالفة مبدأ حجية العقد
خامساً: ما هو الجزاء القانوني لمخالفة الغير لمبدأ حجية العقد
سادساً: نموذج من أحكام محكمة التمييز الأردنية ذات العلاقة
أولاً: المقصود بمبدأ حجية العقد
حتى يمكننا توضيح المقصود بمبدأ حجية العقد بشكل كامل فإنه يلزم أن نتناول مبدأ حجية العقد من وجهين الوجه الأول هو المضمون الخاص بهذا المبدأ، والاتجاهات التي يسري فيها.
1- مضمون مبدأ حجية العقد
باعتبار أن القانون قد اعترف بمشروعية العقد ووضعه في صدارة المصادر التي تنشئ الالتزام، كما منح إرادة طرفيه القدرة على ترتيب الحقوق وإنشائها، فإن النتيجة الطبيعية والمباشرة لذلك أنه متى تم إبرام العقد مستوفياً لأركانه وشرائطه القانونية فإنه يحظى بحماية القانون واعترافه بوجوده، وتتمثل تلك الحماية والاعتراف في فرض احترام هذا العقد ليس على طرفيه فقط ولكن على الغير أيضاً، فلا يجوز للغير أن يمس بالوجود القانوني للعقد، وذلك باعتبار أن منشأ الحقوق المترتبة على العقد لم تعد تستمد وجودها من العقد بل تعتبر
مستمدة من القانون ذاته.
وفي ظل المذهب الفردي كان المبدأ السائد هو أن العقد شريعة المتعاقدين، حيث يعد بمثابة القانون الذي يحكم العلاقة التي تربط بين المتعاقدين، وبناء على ذلك لم يكن العقد يرتب أي أثر إلا بين طرفيه وفقاً لمبدأ نسبية آثار العقد، وبالتالي فإن ما يتمتع به العقد من قوة ملزمة لا تتعدى بآثارها إطار طرفيه فقط، ولا يكون للعقد أي قوة ملزمة على أي شخص من الغير وهو ما يطلق عليه القانونيين الأثر النسبي للعقد من حيث الأشخاص، وبجانب ذلك الأثر هناك أثر آخر يقتضي عدم إلزام طرفي العقد بالتزامات لم يشتمل عليها العقد، بحيث تقتصر التزاماته العقدية على ما ينص عليه العقد من التزامات، وهذا الأثر يسمى بالأثر النسي للعقد من حيث المضمون…
وبعد التطور الذي طرأ على النظرة القانونية للعقد والتحول من المذهب الفردي على المذهب الحر، فقد اتجه الواقع العملي إلى إعلاء مصلحة الجماعة على مصالح الفرد، ولم تعد آثار العقد تقتصر على طرفيه فقط، ولذلك فقد ظهر مبدأ حجية العقد الذي يمثل ضمانة لحماية مصلحة الجماعة من خلال فرض احترام الغير لما ينشأ عن العقد من أوضاع ومراكز قانونية وذلك لإسباغ الحماية على ما ينشئه العقد من آثار خارج إطار المتعاقدين، فتكون آثار العقد المتمثلة في الالتزامات والحقوق هي أثار نسبية تقتصر على المتعاقدين، في حين تكون الحجية اثراً عاماً للعقد يفرض على الغير احترام وجود العقد وما يترتب عليه من آثار ومراكز وأوضاع قانونية، وبالتالي يكون العقد نافذاً قبل الكافة.
وقد أخذ فقهاء القانون في عالمنا العربي بنظرة المذهب الحر للعقد، فاعتبر أن الدثار القانونية المترتبة على العقد تختلف عن المراكز القانونية التي تنشأ عنه، بحيث اعتبر الفقه أن الآثار القانونية للعقد هي الالتزامات والحقوق التي تمتد بأثارها لطرفي العقد فقط ولا تشمل الغير، بينما المراكز القانونية التي تترتب على العقد تشمل بحجيتها الجميع من الغير، ولا تعني الحجية هنا أن يقع على عاتق الغير أي التزام أو يصبح له أي حق مترتب على العقد، ولكنها تعني التزام هذا الغير باحترام العقد والانصياع إلى ما يرتبه على عاتق طرفيه من التزامات [1].
وهو ما يمكننا معه القول بأن مبدأ حجية العقد يمثل امتداداً للحماية القانونية التي يسبعها القانون على العقد وما يترتب عليه من آثار، بحيث تشمل تلك الحماية الغير ممن لم يكن طرف في
العقد، فتفرض على هذا الغير احترام المراكز والأوضاع والآثار القانونية التي ترتبت على العقد.
2- الاتجاهات التي يسري فيها مبدأ حجية العقد
بعد مبدأ حجية العقد مبدأ مزدوج الاتجاه، حيث أن آثاره تتخذ اتجاهين مختلفين، أولهما هو تمسك المتعاقدين بحجية العقد في مواجهة الغير، وثانيهما هو تمسك الغير بحجية العقد في
مواجهة المتعاقدين.
ا – تمسك المتعاقدين بمبدأ حجية العقد في مواجهة الغير
وفقاً للمذهب الحر الذي لم يعد يحصر نظرية الالتزام بين طرفي العقد فقط فإن طرفي العقد يمكن لهما – أو لأياً منهما – أن يتمسك بالمركز القانوني الذي رتبه له العقد في مواجهة الغير، وفي نفس الوقت يلتزم هذا الغير باحترام وجود هذا العقد واحترام ما رتبه الطرفيه من آثار قانونية، فعلى سبيل المثال في عقد البيع تكون آثار البيع من التزامات وحقوق قاصرة على طرفيه – البائع والمشتري – فقط ولكن الغير يلتزم بالتعامل مع المشتري باعتبار كونه مالك الشيء محل البيع، فالغير هنا يتعامل مع المشتري على أساس المركز القانوني الذي
رتبه له عقد البيع، ويستطيع المشتري التمسك بحجية عقد البيع الذي منحه صفة المالك في مواجهة الغير.
وبالتالي فإنه متى تم إبرام العقد صحيحاً فإن ذلك يجعل منه عنصر فعال في المجتمع الذي يبرم فيه، ولا يمكن بأي حال من الأحوال حجب آثاره التي يرتبها عن ذلك المجتمع، فعلى سبيل المثال وليس الحصر عقد الزواج الذي يبرم بين طرفين وهما الزوج والزوجة لا تقتصر آثاره عليهما فقط، بل تمتد تلك الآثار للغير في شكل حجية تلزمهم باحترام المراكز القانونية الناشئة عن هذا العقد، حيث تصبح الزوجة محرمة على أي شخص بخلاف زوجها، وفي حالة طلاقهما يلتزم الغير بفترة العدة الشرعية، وغيرها من آثار عقد الزواج التي تلزم
الغير باحترام حجية العقد.
ونأخذ على المشرع الأردني عدم الأخذ بحجية العقد في مواجهة الغير وعدم تنظيمه في القانون المدني الأردني، حيث أن ذلك يمثل قصوراً قد يترتب عليه النيل من القوة الملزمة التي يفترض أن يتمتع بها العقد، ويترك المجال مفتوحاً أمام من يعد من الغير بالنسبة للعقد لتجاهل حجيته وإبرام العقود التي قد تتعارض في مضمونها مع حجية هذا العقد، ويتنصل من أي
مسؤولية تجاه إهداره لحجية هذا العقد، مما جعل السواد الأعظم من الفقه القانوني إلى اعتبار أن مبدأ حجية العقد يعد مكملاً لمبدأ القوة الملزمة للعقد وامتداداً له [2].
وهناك تساؤل هام قد يتبادر إلى أذهان البعض حول مدى الاعتداد بنية الغير في شأن الاحتجاج بحجية العقد في مواجهته، بمعنى آخر هل إذا قام الغير بإبرام عقد لاحق يتعارض مع حجية عقد سابق فهل يختلف الأمر بين كون هذا الغير حسن النية أو سيء النية؟ والمقصود بسيء النية هنا أن يكون عالماً بالعقد السابق وحجيته، أما حسن النية فيقصد به ألا يكون على
علم بوجود العقد السابق، فهل يختلف الأمر بين الحالتين؟
لم يتضمن القانون المدني الأردني رقم 43 لسنة 1976 حكماً يمثل إجابة على هذا التساؤل، ويرجع ذلك إلى كونه لم يتناول بالتنظيم حجية العقد، لذلك فإن إجابة ذلك التساؤل ستكون من
وجهة رأينا الشخصية المستمدة من آراء الفقه القانوني.
من المتعارف عليه أن الفقه والقانون يفرقان بين سوء النية وحسن النية في المعاملات، فيتمتع الشخص حسن النية بالحماية القانونية التي لا تسبغ على الشخص سيء النية، فعلى سبيل المثال قرر المشرع السوري في نص المادة رقم (13) من قانون السجل العقاري رقم 188 لسنة 1926 وتعديلاته ما مفاده أن أي شخص حسن النية يكتسب حقاً على عقار استناداً إلى قيود السجل العقاري، فلا يجوز أن ينتزع منه ذلك الحق لأي سبب من الأسباب، فإذا باع مالك عقار عقاره لمشتري لم يسجل عقده ثم قام ذات البائع يبيع العقار لمرة ثانية ببيع لاحق المشتري ثان حسن النية لا يعلم بوجود البيع الأول وقام المشتري الثاني بتسجيل عقد البيع، فإن حسن النية لديه يجعل عقده هو العقد الصحيح والذي لا يجوز المساس به، ولا يكون أمام المشتري الأول الذي لم يسجل عقده سوى الرجوع على البائع، بينما إذا كان المشتري الثاني سيء النية ويعلم بالبيع الأول فيحق عندئذ للمشتري الأول أن يرجع على المشتري الثاني
بدعوى فسخ التسجيل، ويستند فيها إلى سوء نية المشتري الثاني وعلمه بالبيع السابق.
ويستدل من ذلك على أن حجية العقد قبل الغير لا تعد حجية مطلقة، بل هي حجية مقيدة يحكمها مبدأ حسن النية لدى هذا الغير، بحيث تكون الحجية سارية في مواجهة الغير متى كان سيء النية ويعلم بوجود العقد، وبالتالي يوقع عليه الجزاء متى قام بتصرف يخالف تلك الحجية أو يتعارض معها، بينما تنتفي تلك الحجية قبل الغير حسن النية والذي لا يعلم بوجود العقد
ولا يوقع عليه جزاء متى خالف تلك الحجية، حيث أن الأساس في تحقق المخالفة المستوجبة للجزاء هو العلم بوجود العقد.
ب – تمسك الغير بمبدأ حجية العقد في مواجهة طرفيه
إن مبدأ حجية العقد قد تقرر بشكل أساسي لحماية العقد ذاته وما يرتبه من مراكز وآثار قانونية، فإذا كانت حماية العقد من الغير واجبة ولا يستثنى منها إلا الغير حسن النية الذي لا يعلم بوجود العقد، فإنه ومن باب أولى يمكن لهذا الغير أن يتمسك بحجية العقد قبل طرفيه لإثبات توافر مسؤولية احد طرفيه تجاهه، ولا يمكن هذا الحديث عن حسن النية لكون طرفي العقد
على علم يقيني بوجوده، وبالتالي لا يمكن لأياً منهما التخلص من حجية العقد استناداً إلى مبدأ حسن النية.
إلا أن تمسك الغير بحجية العقد تجاه طرفيه لا يعد هو الآخر تمسكاً مطلقاً، حيث يلزم لكي يتمكن هذا الغير من التمسك بتلك الحجية أن يكون له مصلحة في ذلك، كان يكون ذلك في سبيله لإثبات حقاً له لدى أحد المتعاقدين، أو أن يثبت التزاماً في ذمة أحدهما تجاهه، أو غيرها من الحالات التي يكون له فيها مصلحة من تمسكه بتلك الحجية في مواجهتهما [3].
ويمكننا أن نستدل على ذلك من خلال أحد الأمثلة التي اشتمل عليها القانون المدني الأردني، حيث نصت المادة رقم (1005) منه على أن للمحال عليه أن يتمسك قبل المحال له بكافة الدفوع المتعلقة بالدين والتي كانت له في مواجهة المحيل وله أن يتمسك بكافة الدفوع التي للمحيل قبل المحال له، فعلى الرغم من أن المحال عليه ليس طرفاً من أطراف العقد الذي نشأ عنه الدين والمبرم بين المحيل والمحال له، إلا أنه يتمتع بالقدرة على استخدام جميع الدفوع التي تخص هذا العقد، ومنها على سبيل المثال الدفع ببطلان العقد على الرغم من كونه ليس
طرفاً فيه
ثانياً: تطبيقات مبدأ حجية العقد في القانون الأردني
على الرغم من أن المشرع الأردني لم ينظم مبدأ حجية العقد بشكل صريح عند تعرضه إلى التنظيم الخاص بنظرية العقد، إلا أن ذلك لا يمنع من أنه قد استند إلى هذا المبدأ بشكل ضمني في بعض المواد والنصوص القانونية الواردة في القانون المدني، والتي تعد في جوهرها بمثابة تطبيقات لهذا المبدأ، ومن اهم تلك التطبيقات وأبرزها نذكر ما يلي:
. عند تنظيم المشرع للعقود العينية بوجه عام جعل لها صفة استئثارية، بمعنى أنه منح صاحبها سلطة تتيح له وحده القدرة على ممارسة السلطات القانونية المختلفة على الحقوق الواردة بها، وتتضح حجية تلك العقود التي تترتب عليها هذه الحقوق في مواجهة الغير فيما نص عليه المشرع بنص المادة رقم (1018/1) أن القانون المدني الأردني من تعريف لحق الملكية على أنه ( حق الملكية هو سلطة المالك في ان يتصرف في ملكه تصرفاً مطلقاً عيناً ومنفعة واستغلالاً)، وهو ما يوضح أن العقد الذي تم اكتساب تلك الملكية
على أساسه تكون آثاره نافذة في مواجهة الغير.
. في تنظيم عقد الرهن التأميني في القانون المدني الأردني نجد أن المشرع قد منح هذا العقد حجية مطلقة قبل الغير من سائر دائني المدين سواء العاديين منهم أو اللاحقين للدائن في ديونهم، وذلك على الرغم من أن هؤلاء الغير ليسوا طرفاً في عقد الرهن، والدليل على ذلك ما جاء بنص المادة رقم (1322) من القانون المدني الأردني من أن الرهن التأميني عقد به يكسب الدائن على عقار مخصص لوفاء دينه حقاً عينياً يكون له بمقتضاه أن يتقدم على الدائنين العاديين والتاليين له في المرتبة في استيفاء حقه من ثمن ذلك العقار في أي يد يكون)، حيث جعل المشرع الشيء المرهون بناء على عقد الرهن مخصصاً للوفاء بدين هذا الدائن ومستاثراً به من قبله في مواجهة الغير، كما جعل له الحق
متى تصرف المدين في الشيء المرهون أن يتتبعه وينفذ عليه في يد الغير الذي اشتراه، وهو ما يؤكد حجية عقد الرهن التأميني في مواجهة الغير.. . وكنموذج آخر لتطبيقات حجية العقد نجد عقد الإيداع، حيث نصت المادة رقم (882) من القانون المدني على ان
(1) إذا مات المودع لديه فباع وارثه الوديعة وسلمها للمشتري فهلكت فصاحبها بالخيار بين تضمين البائع أو المشتري قيمتها يوم البيع إن كانت قيمية أو مثلها إن كانت مثلية.
-2 وإذا كانت الوديعة قائمة بيد المشتري يخير صاحبها إن شاء أخذها ورد البيع وإن شاء أجاز البيع وأخذ الثمن، فمن خلال هذا النص يتبين أن عقد الإيداع يتمتع بحجية في مواجهة الغير المتمثل في المشتري من ورثة المودع لديه، حيث يحق للمودع باعتباره صاحب الوديعة ان يضمن المشتري قيمتها أو يرد مثلها حال هلاكها، أو يستردها منه ويرد البيع متى لم تهلك، على الرغم من أن هذا المشتري يعد من الغير بالنسبة لعقد الإيداع لكونه لم يكن طرف فيه، إلا أن هذا العقد يتمتع بحجية في مواجهته. .
وأخيراً – وليس آخراً – نجد من تطبيقات مبدأ حجية العقد في القانون المدني الأردني ما يعرف بضمان استحقاق المبيع ودعوى الاستحقاق، وهذا الضمان هو ضمان مقرر للشخص الدائن الذي يستحق شيء ما لدى الشخص المدين، ثم يقوم الأخير ببيع هذا الشيء لشخص آخر من الغير، فيحق للدائن في تلك الحالة أن يقيم دعوى الاستحقاق مختصماً فيها المشتري ومطالبته بحقوقه على الشيء المبيع، وفي تلك الحالة يقرر المشرع حجية حق الدائن قبل المشتري الذي يعتبر من الغير باعتباره لم يكن طرفاً في العقد المترتب عليه حق الدائن، ويضعه في ذات محل المسؤولية مع البائع (المدين)، وهو ما يتضح من نص المادة رقم (505/1 و 2) من القانون المدني الأرني والتي تنص على أن
(1- إذا قضى باستحقاق المبيع كان للمستحق الرجوع على البائع بالثمن إذا أجاز البيع ويخلص المبيع للمشتري. -2 فاذا لم يجز المستحق البيع انفسخ العقد وللمشتري ان يرجع
على البائع بالثمن، حيث تمنح تلك الحدجية الدائن أن يفسخ عقد البيع الذي لم يكن طرفاً فيه.
وغيرها من النماذج والأمثلة الأخرى على تطبيقات مبدأ حجية العقد في مواجهة الغير في القانون المدني الأردنين والتي في مجملها تؤكد أنه وعلى الرغم من أن المشرع الأردني لم ينظم مبدأ حجية العقد في مواجهة الغير بشكل مستقل وصريح، إلا أنه استخدم تطبيقات تعتمد في جوهرها على هذا المبدأ.
ثالثاً: شروط قيام مسؤولية الغير عن مخالفة مبدأ حجية العقد
باعتبار أن مبدأ حجية العقد هو مبدأ قانوني يحتم على الغير احترامه، فإن مخالفته ترتب المسؤولية عن ذلك في حق الغير الذي ارتكب تلك المخالفة، ولكن حتى تتحقق تلك المسؤولية في حق هذا الغير يلزم أن تتوافر بعض الشروط الجوهرية مجتمعة، وفي هذا البند من المقال سوف نتعرض إلى تلك الشروط.
1- أن يكون العقد المتمتع بالحجية هو عقداً صحيحاً
حتى يمكن اعتبار وجود لحجية العقد في مواجهة الغير يلزم أن يكون هذا العقد صحيحاً، لاسيما وأن العقد لا يكون له أي وجود قانوني إلا إذا كان صحيحاً، حيث يعد العقد الباطل هو والعدم سواء ولا يرتب أي حجية سواء بين طرفيه أو في مواجهة الغير.
وقد يثور التساؤل بشأن العقد الموقوف ومدى حجيته في مواجهة الغير، فهل يعد وقف العقد مانعاً لسريان حجيته في مواجهة الغير أم لا؟
والإجابة على هذا التساؤل تكمن في طبيعة العقد الموقوف ذاته، فهو في جوهره عقداً صحيحاً ولكن طرأ عليه سبب ترتب عليه عدم نفاذ آثاره بين طرفيه، وتوقف نفاذها لحين صدور
إجازة للعقد من الشخص صاحب الحق في إصدار تلك الإجازة [4]، وباعتبار أن هذا العقد صحيحاً في جوهره فإن حجيته تلزم الغير بغض النظر عن كونه موقوفاً أم لا نظراً لأن تعليق
آثاره تخص العلاقة بين طرفيه وليس الغير، لاسيما وأن هذا العقد متى تم إجازته فإن آثاره تنفذ بأثر رجعي من تاريخ إبرامه وليس من تاريخ إجازته.
-2- ألا يكون هناك نص قانوني خاص يترتب عليه انصراف العقد للغير
الغير هو من لم يكن طرف من طرفي العقد، ولا يقصد بذلك الطرفين الموقعين على العقد فقط ولكن أيضاً الخلف العام الذي يخلف أحد المتعاقدين كورثته، حيث جعل المشرع آثار العقد لهم على الرغم من أنهم لم يكونوا طرفاً في العقد، وأيضاً الخلف الخاص الذي جعل المشرع بعضاً من آثار العقد الذي أبرمه سلفه تنصرف إليه.
وبناء على ذلك فإن هناك بعضاً من الغير الذين يمكن أن يصبحوا في حكم أطراف العقد وتنسحب عنهم صفة الغير متى كان هناك نص قانوني خاص يقرر ذلك بشأنهم، مما يستلزم لكي
يكون شخصاً من الغير ألا يكون هناك نص قانوني خاص يمنحه صفة الطرف في العقد، وذلك حتى يمكن الحديث عن حجية العقد في مواجهة الغير.
-3- ألا يكون هناك نص قانوني خاص يحول دون خضوع الغير لحجية العقد
يلزم أيضاً لخضوع الغير لحجية العقد الا يكون هناك نص قانوني خاص يستثني هذا الغير من نطاق تطبيق مبدأ حجية العقد عليه، فإن كان الأصل أن العقد يتمتع بحجية في مواجهة الغير إلا أن الاستثناء على ذلك الأصل هو وجود النص القانوني الخاص الذي يستثنيه من الخضوع لتلك الحجية، فإذا وجد مثل ذلك النص لا يكون هناك مجالاً لمساءلة هذا الغير عن
مخالفة مبدأ حجية العقد حتى وإن تحققت تلك المخالفة.
والأمثلة على ذلك في القانون المدني الأردني متعددة، ومن أبرزها العقد الصوري، حيث استثنى المشرع من نطاق حجية العقد الصوري دائني طرفي هذا العقد وخلفهم الخاص الحسن النية، ومنحهم الحق في استخدام كافة وسائل الإثبات لإثبات صورية العقد الظاهر، وهو ما نصت عليه المادة رقم (368/1) من القانون المدني من أن (إذا أبرم عقد صوري فلدائني المتعاقدين وللخلف الخاص متى كانوا حسني النية أن يتمسكوا بالعقد الصوري، كما أن لهم أن يتمسكوا بالعقد المستتر ويثبتوا بجميع الوسائل صورية العقد الذي أضر بهم)، حيث جعل
المشرع العقد الصوري عديم الحجية في مواجهة طائفة محددة ومستثناه من الغير وهم دائني المتعاقدين والخلف الخاص لهما.
4- أن يتصل علم الغير بالعقد الذي تم مخالفة حجيته
وهو معنى آخر لحسن نية هذا الغير، حيث أنه وكما سبق أن أوضحنا فإن حسن النية الذي يعفي الغير من المساءلة عن مخالفة حجية العقد هو ألا يكون على علم بوجود هذا العقد، فلا يجوز محاسبة شخص عن مخالفة حجية عقد لا يعلم بوجوده من حيث الأصل، لذلك فإن العلم بوجود العقد شرط ضروري للخضوع لحجيته، ومتى تحقق العلم لدى الغير بوجود العقد
أصبح لزاماً عليهم احترامه والتقيد بحجيته وعد مخالفتها.
5- أن تكون مخالفة الغير لحجية العقد قد تمت بالمشاركة مع المدين في العقد الذي تم مخالفة حجيته
بعد ذلك الشرط من أهم شروط تحقق مخالفة حجية العقد من قبل الغير وأدقها، ويرجع ذلك إلى أنه يضع الحد الفاصل بين مخالفة الغير لحجية العقد واستحالة التنفيذ بسبب فعل الغير
ففي فعل الغير الذي يستحيل معه تنفيذ الالتزام يكون بمثابة سبب أجنبي عن العقد وطرفيه، بينما في مخالفة حجية العقد تكون تلك المخالفة مشتركة بين الغير والمدين في العقد، وهو ما يترتب عليه عدم قدرة المدين على تنفيذ التزامه الذي أبرم عنه العقد مع دائنه، ومثال على ذلك عقد الوعد بالبيع حيث يقوم البائع الواعد بعدم تنفيذ وعده بالبيع، وقيامه ببيع محل عقد الوعد بالبيع لشخص من الغير الذي يكون على علم بوجود هذا العقد.
رابعاً: التكييف القانوني لمسؤولية الغير عن مخالفة مبدأ حجية العقد
تعد المسؤولية عن مخالفة حجية العقد مسؤولية لا يمكن تحققها عن طريق طرف واحد، بل يلزم لتحققها مشاركة طرفين وهما الغير والطرف المدين في العقد الذي تم مخالفة حجيته. لذلك فسوف نتناول مسؤولية كل منهما تجاه الدائن في العقد الذي تم مخالفة حجيته، موضحين التكييف القانوني لكل مسؤولية من هاتين المسؤوليتين، وسيكون ذلك من خلال آراء الفقه
القانوني باعتبار أن المشرع الأردني لم ينظم تلك المسؤولية في القانون.
-1- التكييف القانوني لمسؤولية المدين
المقصود هنا بالمدين هو الشخص الذي يكون طرفاً في العقد المتمتع بالحجية، والذي يكون مديناً بالتزامه للطرف الآخر المتعاقد معه، وبالتالي فإن منبع مسؤولية المدين قبل الدائن عن مخالفته تكون مسؤولية عقدية باعتبارها تمثل إخلالاً بما يقع على عاتقه من التزامات يرتبها العقد.
وإن كان ذلك صحيحاً بشأن الإخلال المباشر الذي يقع من قبل المدين في مواجهة الدائن إلا أن ذلك لا يصدق على ما يقوم به المدين من مخالفة تتمثل في إهداره لحجية العقد المبرم بينه وبين الدائن، وذلك عن طريق إبرامه لعقد آخر مع الغير يخالف مضمونه تلك الحجية، ويرجع ذلك إلى أن الخطأ التعاقدي الذي يترتب عليه إخلال بالالتزامات التعاقدية لا يقترن بسوء نية من المدين، في حين أن إهداره لحجية العقد بالتعاقد مع الغير يكون عن سوء نية باعتباره يعلم يقيناً بوجود العقد السابق الذي كان طرفاً فيه مع الدائن، ولكنه يصر على إهدار حجيته وارتكاب فعل يخالف تلك الحجية ويهدرها تماماً، وهو ما يعد بمثابة الغش الذي يرتب في حق مرتكبه المسؤولية التقصيرية الموجبة للتعويض، لا سيما وأن كلا من التعويض عما فات
من كسب والتعويض المعنوي لا يقضى بهما في المسؤولية العقدية إلا في إحدى حالتين، الأولى حالة الغش، والثانية هي حالة الخطأ الجسيم [5].
وهو ما يتبين معه أن مسؤولية المدين قبل الدائن في حالة مخالفته لحجية العقد المبرم بينهما يمكن تكييفها بأنها في جوهرها مسؤولية عقدية لكونها نشأن بناء على العقد، إلا أنه ولوجود
الغش المرتبط بالمخالفة الناتج عنها تلك المسؤولية فإن ما يطبق عليها هو احكام المسؤولية التقصيرية.
-2- التكييف القانوني لمسؤولية الغير
حاول البعض تكييف مسؤولية الغير عن الإخلال بحجية العقد ومخالفتها على أساس كونها مسؤولية عقدية، وكان سندهم في ذلك أن وجود العقد وعلم الغير بذلك الوجود يفرض على هذا الغير احترام حجية هذا العقد، فإذا ما خالف تلك الحجية بارتكابه مخالفة لها فإن مسؤوليته عن تلك المخالفة تنبع من العقد، فيمكن اعتبارها مسؤولية تماثل مسؤلية المتعاقد في العقد [6].
إلا أن تلك المحاولة لم تلق قبولاً لدى السواد الاعظم من الفقه، لاسيما وأنها تؤسس مسؤولية ذات أساس عقدي على شخص لم يكن طرفاً في العقد بما يتعارض تماماً مع مبدأ نسبية العقد، كما يتعارض أيضاً مع حقيقة أن الالتزام بالعقد يلزمه التراضي بين طرفيه على تحمل تلك الالتزامات، وفي حالة إلزام الغير بالعقد دون رضاه يهدم تلك الحقيقة من أساسها.
مما جعل الرأي السائد لدى الفقه القانوني هو مسؤولية الغير عن مخالفة حجية العقد هي مسؤولية تقصيرية، لاسيما وأن سوء النية لدى هذا الغير والمتمثل في علمه بالعقد ووجوده يعد
ضرباً من ضروب الغش الذي يؤسس لمسؤوليته التقصيرية.
خامساً: ما هو الجزاء القانوني لمخالفة الغير لمبدأ حجية العقد
باعتبار أن المشرع الأردني لم يتناول بالتنظيم حجية العقد في مواجهة الغير وما ينشأ على مخالفة تلك الحجية من مسؤولية فهو لم يتعرض بدوره للجزاء الذي يوقع على الغير متى
ارتكب تلك المخالفة، إلا أن القوانين التي تناولت تلك المسؤولية قررت أن جزاء تلك المخالفة هو بطلان العقد الذي يبرم بين المدين والغير باعتباره عقداً لاحق على عقد صحيح يتمتع بالحجية وهو العقد المبرم بين الدائن والمدين، فيكون العقد اللاحق وارداً على غير ذي محل باعتبار أن محل العقد لم يعد للمدين حتى يمكنه أن يتصرف فيه أو يتعاقد عليه.
وجميع ما سبق بالطبع يكون في حالة توافر سوء النية لدى الغير، حيث أن حسن النية يعفيه من الجزاء ويجعل العقد المبرم بينه وبين المدين صحيحاً، ولا يكون أمام الدائن سوى الرجوع
على المدين.
سادساً: نموذج من أحكام محكمة التمييز الأردنية ذات العلاقة
1 – حكم محكمة التمييز الأردنية بصفتها الحقوقية الصادر في الطعن رقم 1591 لسنة 2022 بجلسة 7/4/2022، والمتضمن أنه بالنسبة للمدعى عليه والذي هو مدير للشركة المدعى عليها وعضواً في هيئة المديرين فإن هاتين الصفتين لا تجعل منه كفيلاً أو مسؤولاً بالتزاماتها لإستقلال ذمة المدير أو أعضاء هيئة المديرين عن ذمة الشركة بالإضافة إلى أنه لم يثبت توقيعه بشكل شخصي على عقد الإيجار، فلا يعتبر العقد حجة عليه ويعتبر من الغير في مواجهة طرفي عقد الإيجار وبالتالي فلا يجوز إلزامه بما ورد في هذا العقد من التزامات تطبيقاً المبدأ نسبية العقد التي تقضي بأن العقد لا يلزم إلا أطرافه ولا يلزم الغير بشيء إلا أنه يكسبه حقاً ) .
2 حكم محكمة التمييز الأردنية بصفتها الحقوقية الصادر في الطعن رقم 560 لسنة 1990 بجلسة 29/12/1990، والمتضمن أنه لا يحكم بالتعويض عن الربح الفائت والتعويض
المعنوي في المسؤولية التعاقدية الا في حالتي الغش والخطا الجسيم).
سابعاً: الخاتمة
يعتبر مبدأ حجية العقد من المبادئ الهامة التي ترسخ احترام العقد من قبل الغير الذي لم يكن طرف فيه، ويعد مكملاً لمبدأ نسبية آثار العقد حيث أن هذا المبدأ يوضح آثار العقد بين طرفيه بينما مبدأ حجية العقد يفرض احترام العقد خارج نطاق طرفيه.
إلا أنه وعلى الرغم من ذلك نجد أن المشرع الأردني لم يتناول مسألة حجية العقد قبل الغير بالتنظيم في القانون المدني، وهو ما يعد قصوراً يلزم تداركه، لذلك نهيب بالمشرع ضرورة
معالجة هذا القصور وتنظيم مبدأ حجية العقد قبل الغير بشكل مفصل وواضح في القانون المدني.
المراجع:1
- 1[1] – محمود زكي – الوجيز في النظرية العامة للالتزامات – الطبعة الثالثة – مطابع جامعة القاهرة .
[2] محمد قاسم – الالتزامات العقد – منشورات الحلبي الحقوقية – لبنان – مج (2) – 2018 ص 170.
[3] – محمود زكي – المرجع السابق – ص 289..
[4] – عدنان السرحان ونوري خاطر – مصادر الحقوق الشخصية – الطبعة الأولى – دار الثقافة – الأردن – 2000 – ص 216.
[5] – يراجع البند ( سادساً) من هذا المقال – الحكم رقم (2).
[6] سعد عبد الجبار – حجية العقود وأثرها في استقرار المعاملات – اطروحة ماجستير غير منشورة – جامعة النهرين – العراق – 2008 ص 173 وما يليها. ↩︎