مبدأ الأصل براءة المتهم
وضع الدستور الأردني العديد من المبادئ والقواعد الهامة التي تحفظ وتحمي حقوق وحريات الأفراد من الإفتات عليها أو التعدي عليها، ومن أهم هذه المبادئ مبدا الأصل براءة المتهم، لما يحققه هذا المبدأ من حماية خاصة للمتهم الذي لم تثبت إدانته، وقد ترتب على إقرار هذا المبدأ من العديد من القواعد التي هدفت في الأصل إلى تحقيقه من الناحية العميلة، سواء في مواجهة الإجراءات الجزائية التي تتخذها السلطات القضائية أو التنفيذية، وكذلك في تقرير العديد من الضمانات التي يجب توافرها في الحكم القضائي الصادر بالإدانة، وأهمها أن يكون الحكم القضائي الصادر بالإدانة صادرا عن يقين قضائي لا يقبل الشك أو الاضطراب، وأن توافر الشك والريبة في قناعة القاضي الجنائي يستلزم القضاء بالبراءة .
وإزاء تلك الأهمية الكبيرة لهذا المبدأ فسوف نتناوله بالشرح والتأصيل على التفصيل الآتي :
أولا : مفهوم مبدأ الأصل براءة المتهم وأهميته
ثانيا: مبدأ الأصل براءة المتهم في الشريعة الإسلامية و القانون الأردني والمواثيق الدولية
ثالثا: الأثار المترتبة على إقرار مبدأ الأصل براءة المتهم
رابعا: أحكام قضائية مرتبطة بمبد الأصل براءة المتهم
أولا : مفهوم مبدأ الأصل براءة المتهم وأهميته
أ- التعريف بمبدأ الأصل براءة المتهم:
يعتبر هذا المبدأ من أهم المبادئ التي يجب العمل على تحقيقها في جميع مراحل الدعوى الجزائية حتى صدور حكم نهائي فيها بإدانة المتهم، ويستند هذا المبدأ على أن المتهم في جريمة جزائية يعد بريئا حتى يصدر حكم نهائي بإدانته فيها، وذلك بغض النظر عن مدى جسامة الجريمة المسندة إليه أو خطورتها و وجوب معاملته باعتباره بريئا طوال مدة نظر الدعوى الجزائية.[1]
- ولم يتطرق المشرع الأردني على تعريف هذا المبدأ وترك هذه المهمة للفقه القانوني الذي عرفه بعدة تعريفات منها تعريف الأستاذ محمد الحدة بأنه : ( معاملة الشخص – مشتبها فيه كان أو متهما – في جميع مراحل الإجراءات و مهما كانت جسامة الجريمة التي نسبت إليه على أنه بريء حتى تثبت إدانته بحكم قضائي بات وفقا للضمانات التي قررها القانون للشخص في كل مراحل الدعوى).[2]
كما عرفه البعض بأنه أصل البراءة هو أن لا يجازى الفرد عن فعل أسند إليه ما لم يصدر ضده حكم
بالعقوبة من جهة ذات ولاية قانونية).[3]
ومن أهم التعريفات التي تناولت هذا المبدأ أنه : ( أن كل شخص تقام ضده الدعوى الجنائية، بصفته فاعلا للجريمة أو شريكا فيها، يعتبر بريئا حتى تثبت إدانته بحكم بات، يصدر وفقا لمحاكمة قانونية ومنصفة، تتوافر له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه، وأن تتم معاملته أثناء الإجراءات الجنائية على أساس أنه بريء).[4]
- و الجدير بالذكر أن هذه التعريفات لها ما يماثلها في الفقه الإسلامي فقد جاء عن الإمام العز بن عبدالسلام قوله : ( فالأصل في الإنسان براءة ذمته من الحقوق، وبراءة جسده من الحدود والقصاص والتعزيرات ) .[5]
- وترتيبا على هذه التعريفات فيمكننا القول أن هذا المبدأ مبني على أن الفطرة التي جبل عليها الإنسان هو براءته من ارتكاب الأخطاء وسلامته من الوقوع فيها، وهو لا يحتاج إثبات براءته بقدر ما يحتاج مدعي إدانته إلى إثبات ذلك، كما أن هذا المبدأ اقتضى في مضمونه احترام الأحكام القضائية وميعاد صدورها، فمعاملة المتهم بصفته مدان منذ الوهلة الأولى للدعوى الجزائية يثير الشك والريبة حول أهمية التحقيق وإجراء المحاكمة وصولا إلى الحكم القضائي العادل الذي قد يقضي في نهاية الأمر ببراءته مما اسند إليه، كما تظهر أهمية هذا المبدأ في حفظه لحرية المتهم وحقوقه الأساسية خاصة حقه في أن يكون حرا حتى صدور حكم نهائي بإدانته مالم تقتضي مصلحته الشخصية أو مصلحة الدعوى الجزائية أو الأمن العام حبس حريته احتياطيا، فهو مبدأ هام يجعل المتهم في حالة نفسية سوية تمكنه من إبداء دفاعه ودفوعه وتلقي على عاتق مأموري الضبط القضائي والنيابة العامة مسئولية إثبات صحة اتهامهم له فهو غير مجبر على إثبات براءته كونها مفترضة من حيث الأصل.
ب- أهمية مبدأ الأصل براءة المتهم
يمكن الإشارة إلى أهمية مبدأ الأصل براءة المتهم في عدة نقاط على النحو الاتي :
1- يساعد مبدأ الأصل براءة المتهم في تقرير ضمانات الحرية الشخصية للمتهم، خاصة من تعسف السلطة التنفيذية أو القضائية في مواجهته ما يساعد في تقليل الأضرار التي تلحق به سواء في حريته أو كرامته أو سمعته خصوا في حالة القضاء ببراءته مما أسند إليه.
2- يساعد هذا المبدأ في سريان محاكمة المتهم بشكل عادل وحيادي أمام المحكمة التي تنظر الدعوى، وينفي عن المحاكمة أي وصف بعدم الحيدة، أو بالوقوف ضد المتهم قبل بيان حقيقة الواقعة محل المحاكمة، وبتحقق ذلك الحياد المبني على هذا المبدأ يتمكن المتهم إبداء دفوعه التي قد تنجو به من مغبة الإدانة وتساعده في تبرأة ساحته من ارتكاب الجريمة محل المحاكمة.[6]
3- كما يفرض هذا المبدأ على القاضي عند إصدار حكمه بالإدانة أن يكون هذا الحكم مبنيا على قناعة ويقين، وليس مجرد الشك أو التخمين بل يعتبر الشك في هذه الحالة قرينة على براءة المتهم ويفسر لصالحه.
ثانيا: مبدأ الأصل براءة المتهم في الشريعة الإسلامية و القانون الأردني والمواثيق الدولية
أولا: إقرار مبدأ الأصل براءة المتهم في الشريعة الإسلامية
كانت الشريعة الإسلامية سباقة في تقرير المبادئ الحقوقية بشكل عام ومبدأ الأصل في الإنسان البراءة بشكل خاص، ويظهر ذلك من خلال القاعدة الفقهية المشهورة ( الأصل براءة الذمة ) والتي استخلصت من النصوص الشرعية سواء في القران الكريم أو في السنة النبوية المطهرة.
- ففي القران الكريم قوله تعالى في سورة الحجرات الآية رقم (6) : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) ، وقوله تعالى في سور الحجرات الآية رقم (8) : ( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن أن بعض الظن إثم).
حيث جاءت الآيتين الكريمتين لتؤكد عدم جواز بناء الإدانة على مجرد الظنون أو الأدلة الغير يقينية بل يجب أن تبنى على اليقين الذي لا يقبل إثبات عكسه.
وفي السنة النبوية المطهرة ما ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت:« قال الرسول عليه الصلاة و السلام: ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فاخلوا سبيله فإن الإمام لإن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة»، وفي حديث آخر: « ادرؤوا الحدود بالشبهات ».
ثانيا: إقرار مبدأ الأصل براءة المتهم في القانون الأردني
لم يتوانى المشرع الأردني في تقرير مبدأ الأصل براءة المتهم، بل نص عليه صراحة في الدستور الأردني وقانون أصول المحاكمات الأردني، ويرجع ذلك إلى ما قررناه سابقا من أهمية هذا المبدأ و تقرير الشريعة الإسلامية له، وقد نص الدستور الأردني على هذا المبدأ وقرره صراحة في المادة ( 101 / 4 ) منه بقوله : ( 4. المتهم بريء حتى تثبت إدانته بحكم قطعي) .
- ولاشك أن في تقرير هذا المبدأ دستوريا ما يؤكده، ويؤكد أهيمته، كما يجعل أي نص تشريعي يخالفه مخالفا للدستور يستوجب عدم العمل به، ذلك أن المشرع الدستوري يهدف من النص على مثل هذه المبادئ في نصوص الدستور حتى يجعلها قواعد أساسية لا يجوز للتشريعات الأدنى درجة مخالفة أحكامها.
وقد أخذ المشرع الجنائي بهذا المبدأ الدستوري ونص عليه صراحة في قانون أصول المحاكمات الجزائية، حيث نصت المادة ( 147 / 1 ) من قانون أصول المحاكمات الجزائية على : ( 1. المتهم بريء حتى تثبت إدانته بحكم قطعي) .
ثالثا: إقرار المبدأ في المواثيق الدولية
يعتبر هذا المبدأ من أهم المبادئ التي تناولتها العديد من المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان فنص عليه صراحة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948 حيث نص في المادة ( 11 ) منه على : ( أن كل شخص متهم بجرمية يعتبر بريئا إلى أن يثبت ارتكابه لها قانونا في محاكمة عادلة علنية تكون قد
وفرت له فيها جميع الضمانات اللازمة للدفاع عن نفسه ).
- كذلك ما قررته المادة ( 14 /2 ) من العهد الدولي للحقو المدنية والسياسية حيث جاء فيها : ( من حق كل متهم بارتكاب جرمية أن يعتبر بريئا إلى أن يثبت عليه الجرم قانونا).
وهو أيضا ما قررته الاتفاقية الخاصة بحقوق الطفل بوجوب افتراض براءة الطفل المتهم إلى أن يثبت عكس ذلك، حيث نصت في المادة (40/ب/ 1) على : ( يجب أن توفر لكل طفل يدعى أنه انتهك قانون العقوبات أو يتهم بذلك، افتراض براءته إلى أن تثبت إدانته وفقا للقانون).
وترتيبا على هذه النصوص القانونية سواء الواردة في الدستور أو القانون الأردني ونظائرها في المواثيق والاتفاقيات الدولية فإنه يمكننا القول أن هذا المبدأ هو مبدأ عالمي لا يخلو أي تشريع قانوني في أي دولة في هذا العصر منه لما فيه من فوائد ومميزات سبق وأن ذكرناها، ولكونه اكثر وأقرب تحقيقا للعدالة المنشودة وتقليل الأضرار الناتجة عن محاكمة المتهم الذي قد تثبت في النهاية براءته.
ثالثا: الأثار المترتبة على إقرار مبدأ الأصل براءة المتهم
تظهر أثار مبدأ الأصل براءة المتهم بشكل واضح في جميع مراحل الدعوى الجزائية، حيث يكون له دورا هاما في ضبط أحكام وقواعد الإجراءات الجزائية ونظر الدعوى الجزائية من ناحية، إلى جانب أثره البالغ على الحكم الجزائي وشروط صدوره بالإدانة من ناحية أخرى، وسوف نتحدث عن تلك الأثار بالتفصيل على النحو الآتي :
أ- دور مبدأ الأصل براءة المتهم في الإجراءات الجزائية المتخذة في مواجهته
يعتبر مبدأ الأصل في المتهم البراءة من المبادئ المقررة دستوريا وتشريعيا كما سلف وذكرنا، ويترتب على ذلك عدة نتائج هامة في مرحلة تحقيق الدعوى الجزائية ونظرها أمام القضاء، ومن أهم تلك النتائج أن المتهم يبقى في ظل القانون بريئا ولا يتوجب عليه إثبات براءته إذ أن براءته مفترضة إعمالا لهذا المبدأ، وبالتالي فيكون عبء إثبات إدانته واقعا على سلطة توجيه الاتهام إليه، فهي الملزمة بتقديم الدليل على ارتكاب المتهم للجريمة وصحة إسناد الأفعال الإجرامية إلى المتهم.
والجدير بالذكر أن تحلل المتهم من عبء إثبات براءته هو أحد أهم الفوارق بين الإثبات في المواد الجزائية ومثيلتها في المدنية، إذ في الأخيرة يكون الإثبات فيها على أساس المساوة بين اطراف الخصومة.
- كما يترتب على هذا المبدأ نتيجة أخرى لا تقل أهمية عن قبلها وهي عدم جواز إكراه المتهم على تقديم دليل يدينه، و بالتالي فلا يجوز تحليف المتهم يمين حول الجريمة المتهم فيها، [7] كذلك لا يجوز للمحكمة استجواب المتهم إلا إذا أبدى موافقته على هذا الإجراء دون أن يؤخذ من رفضه للاستجواب قرينة أو دلالة على إدانته وكذلك وحقه في أن يكون أخر من يبدي أقواله في المحاكمة.
كما رتب هذا المبدأ حق المتهم في أن يدفع عن نفسه الاتهام بأي وسيلة كانت حتى لو كانت وسيلة غير مشروعة وهو الأمر الذي لم يخوله القانون لسلطة الاتهام، فلا يجوز لها بحال أن يكون دليلها في الإدانة مستمدا من إجراء أو وسيلة غير مشروعة ذلك لأن هذا الحق المقرر للمتهم إنما قرر له على أساس ما افترضه المشرع بداية من أن الأصل فيه البراءة.
ب- دور مبدأ الأصل براءة المتهم في الحكم الجزائي
يظهر دور مبدا الأصل براءة المتهم في الحكم الجزائي من خلال تقرير بعض القواعد الهامة المبنية على هذا المبدأ والتي يجب على القاضي الجزائي الالتزام بها عند إصداره لأحكامه، ومن اهم هذه القواعد :
أ- أن يصدر الحكم الجزائي على أساس من اليقين القضائي
فإذا كانت براءة المتهم مفترضة من حيث الأصل فلا يجوز التنازل عن هذا الأصل إلا إذا وجد من الأدلة اليقينية التي لا يساورها شك أو ريب تشير إلى ارتكاب المتهم للجريمة المسندة إليه، ويقصد باليقين أنه : ( حالة ذهنية تؤكد وجود الحقيقة ويتم الوصول إليه عن طريق نوعين من المعرفة أولهما المعرفة الحسية التي تدركها الحواس، والآخر المعرفة العقلية التي يقوم بها العقل عن طريق التحليل والاستنتاج). [8]
- و للوصول لهذا اليقين يقوم القاضي الجزائي بتحليل أقوال طرفي الخصومة وهم سلطة الاتهام والمتهم وفحص وتمحيص أدلة كل طرف منهما وإجراء التحقيق أو استدعاء الخبراء إذا لزم الأمر، ويتيقن من صورة الواقعة وأدلتها، ويتيقن من مطابقة الأفعال المنسوب صدورها للمتهم للنموذج الإجرامي الذي قرره المشرع، فإذا ما بنى على ذلك قناعته بإدانة المتهم وكانت استدلالاته لصحة هذه الإدانة سائغة ومقبولة عقلا ولها ما يؤيدها من الأوراق، فإن الحكم الجنائي يكون قد صدر موافقا لمبدأ الأصل براءة المتهم، إذ أن المبدأ لا يقصد منه تفليت المتهم من العقاب بل أن يكون الحكم الصادر بإدانته قد صدر عن قناعة ويقين من القاضي.
والجدير بالذكر في هذا الصدد أن اليقين المشار إليه هنا هو اليقين نسبي وليس المطلق فليس بمقدور أحد من البشر الوصول إلى اليقين المطلق في مسألة لم تراها عيناه، كما أن القاضي لا يجوز أن يقضي بعلمه بل يقضي من جماع ما وضع أمامه من أدلة ثبوت ونفي، إلا أنه ورغم أن هذا اليقين غير مطلق وأنه مبني على قناعة القاضي فيجب كما ذكرنا أن تكون تلك القناعة واليقين متفقا مع ما تسوقه أوراق الدعوى الجزائية من أدلة ثبوتية، بحيث إذا عرضت أوراق الدعوى على غيره من القضاة توصلوا إلى النتيجة التي توصل إليها القاضي مصدر الحكم.
- وتكمن الحكمة في اشتراط توفر اليقين القضائي في الأحكام الجزائية التي تقضي بإدانة المتهم كونها تهد مبدا الأصل في المتهم البراءة وهو مبدا يقيني لا يجوز هدمه إلا بيقين اكثر منه قوة.[9]
ب- أن يفسر الشك في صالح المتهم
وتعتبر هذه القاعدة هي من اهم النتائج والأثار المترتبة على إقرار مبدا الأصل براءة المتهم، فالشك ضد اليقين وهو التردد الذي يحدث بين امرين فلا يرجح أحدهما على الأخر أو على الأقل لا يثبت وقوع أحدهما بشكل يقيني، وبالتالي فإذا فحص القاضي الجزائي أدلة طرفي الخصومة وسمع أقوالهما وأجرى الخبرة إذا رغب في ذلك ثم لم يصل إلى اليقين المفترض واضطربت قناعته بالقدر الذي يجعله غير قادر على الجزم بصحة إسناد الفعل الإجرامي إلى المتهم، فيجب عليه أن يعمل قاعد الشك يفسر لصالح المتهم، كونها تنبثق عن الأصل العام وهو أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، ويترتب على ذلك أن حكم البراءة لا يجب على القاضي حتى يصدره أن يتثبت أو أن يتيقن من عدم ارتكاب المتهم للفعل الإجرامي فحسبه أن يتشكك في وقوع الفعل الإجرامي منه ما يستدعي عودته إلى الأصل وهو براءة المتهم، وفي ذلك فقد نصت المادة (147 / 4 ) من قانون أصول المحاكمات الجزائية على : ( 4. إذا لم تقم البينة على الواقعة يقرر القاضي براءة المتهم أو الظنين أو المشتكى عليه من الجريمة المسندة إليه) .
- والجدير بالذكر أنه وإن كان المشرع قد اعطى للقاضي الحق في القضاء بالبراءة إذا ما تشكك في صحة الاتهام المسند إلى المتهم، إلا أن ذلك شرطه أن يكون القاضي قد أحاط بالدعوى الجزائية وظروفها والأدلة المقدمة فيها بالقدر الذي يشير إلى المامه بها، وأنه وازن بين الأدلة ودخل في قناعته الشك والريبة حول ارتكاب المتهم للفعل الإجرامي، إذ الشك المعول عليه في هذه الحالة هو الشك المبني على أسباب تؤيده أوراق الدعوى وظروفها وليس محض هوى القاضي أو علمه الشخصي.
رابعا: أحكام قضائية مرتبطة بمبدأ الأصل براءة المتهم
1- الحكم رقم 2913 لسنة 2022 – محكمة التمييز بصفتها الجزائية الصادر بتاريخ 2022-12-21 حيث جاء فيه : ( والمحكمة بعد استعراضها لكافة بينات النيابة العامة والبينات الدفاعية المقدمة والمستمعة في الدعوى، وذلك وفق ما توصلت إليه المحكمة من قناعة من خلال البينات المستعرضة والتي ناقشتها واستخلصتها وقنعت بها قناعة تامة لا يشوبها الشك والاضطراب بما لها من صلاحية مستمدة من أحكام القانون ومن نص المادة (147) من قانون أصول المحاكمات الجزائية والتي أكدت على أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته بحكم قطعي وأن البينات تُقام في الجنايات والجُنح بجميع طرق الإثبات، ويحكم القاضي حسب قناعته الشخصية وأن هذه القناعة يجب أن تكون مستمدة من البينات المعروضة في الدعوى والتي تناقشها فيها الخصوم بصورة علنية واستناداً إلى مبدأ شفوية المحاكمة وعلانيتها، شريطة أن تكون هذه البينات لها أصلها الثابت في الدعوى ومستمدة منه وأن يُعمل القاضي قناعته الوجدانية بالاستناد إلى بينات ثابتة في الدعوى كما وأنه إذا لم تقم البينة على الواقعة، يقرر القاضي براءة المتهم مما أُسند إليه وفق نص المادة (147) من قانون أصول المحاكمات الجزائية المشار إليها، كما وإنه إذا تولد الشك والريبة لدى المحكمة فإنه يتعين إعلان براءة المتهم مما أُسند إليه إعمالاً لقاعدة الشك يُفسر لمصلحة المتهم إعمالاً بنص المادة المذكورة.
وفي هذا الخصوص فقد استقرت محكمة التمييز في العديد من اجتهاداتها على ذلك وبما أشارت إليه المحكمة، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر الاجتهادات القضائية التالية :-
((لطفاً انظر تمييز جزاء رقم 183/2016 (هيئة عامة) تاريخ 12/4/2016))
((لطفاً انظر تمييز جزاء رقم 30/2013 (هيئة عامة) تاريخ 30/12/2013))
((لطفاً انظر تمييز جزاء رقم 484/2011 (هيئة عامة) تاريخ 28/6/2011))
((لطفاً انظر في ذلك تمييز جزاء رقم 232/2002 (هيئة عامة) تاريخ 22/4/2002)).
كما وجاء في اجتهاد آخر لمحكمة التمييز توصلت فيه إلا أن الاجتهاد القضائي ذهب إلى أن لمحكمة الموضوع مُطلق الحرية في تقدير الدليل في المسائل الجزائية وتكوين عقيدتها والأخذ بما تقنع به وطرح ما لا يرتاح إليه وجدانها ولها أن تقضي بالبراءة متى تشككت في صحة الدليل، ولا رقابة لمحكمة التمييز عليها في ذلك ما دام أن النتيجة التي استخلصتها جاءت سائغة ومقبولة عقلاً ومنطقاً ولها أصلٌ في أوراق الدعوى.
كما ذهب الاجتهاد القضائي إلى أن اختلاف الوقائع المشهود عليها إذا ورد في تفصيلات ثانوية مما يختلط على الشخص العادي لا يمنع المحكمة من اعتمادها وتكوين القناعة في نسبة الجريمة لفاعلها وأما إذا ورد الاختلاف في وقائع جوهرية وليست ثانوية بالمفهوم المشار إليه فإن استبعاد الشهادة في هذه الحالة يكون متفقاً والقانون، حيث أن محكمة الجنايات الكبرى قد استعرضت أقوال المجني عليها في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة وأظهرت التناقض في الوقائع الجوهرية التي أشارت إليها تفصيلاً، مما يُغني عن إعادة تكرارها سواء تناقضها في أقوالها في مراحل التحقيق والمحاكمة وتناقضها مع أقوال الشهود.
((لطفاً انظر في ذلك تمييز جزاء رقم 1202/2021 (هيئة عامة) تاريخ 20/1/2002))
وعليه وبتطبيق القانون على الوقائع الثابتة للمحكمة وفق ما هو ثابت لديها وفي ضوء ما تقدم وحيث أن بينات النيابة العامة قد جاءت قاصرة وعاجزة عن إثبات الجرم المسند للمتهمين، وحيث أن التجريم مقرون بثبوت الأفعال وثبوت هذه الأفعال مقرون أيضا بتقديم النيابة العامة أدلة سليمة ومقنعة ومقبولة للمحكمة، وعليه فإن عبء الإثبات يقع على النيابة العامة، وحيث لم ترد أية أدلة أو بينة قاطعة وجازمة بحق المتهمين بما نُسب إليهما، وبما أن الدليل يقوم على الاقتناع الوجداني بصحته، وإن الأحكام الجزائية تبنى على الجزم واليقين
لا على الشك والتخمين، وإن الدليل إذا طرقه الاحتمال فسد به الاستدلال وحيث أن بينات النيابة العامة أحاطت بها الشكوك والظنون فضلاً عن كونها جاءت قاصرة عن الإثبات ومتناقضة، مما يستدعي إعلان براءة المتهمين مما أسند إليهما اعتماداً على هذه القواعد العامة المنوه إليها وكذلك توفيقاً مع ما جاء في نص المادة (147/4) من قانون أصول المحاكمات الجزائية).
2- الحكم رقم 15341 لسنة 2022 – صلح جزاء عمان الصادر بتاريخ 2023-02-16 حيث جاء فيه : ( أما فيما يتعلق بالمشتكى عليه عدي تجد المحكمة أنه وسنداً لنص المادة (147) من قانون أصول المحاكمات الجزائية فإن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وأنه إذا لم تقم البينة على الواقعة المزعومة فعلى المحكمة إعلان براءة المشتكى عليه، وحيث أن الأحكام الجزائية تبنى على الجرم واليقين لا على الشك والتخمين وهذا هو مناط التجريم في الدعوى الجزائية وأنه إذا تولد الشك والريبة لدى المحكمة فإنه يتعين إعلان براءة المشتكى عليه اعمالًا لقاعدة الشك يفسر لمصلحة المتهم (انظر قرار تمييز جزاء رقم 183/2016 هيئة عامة تاريخ 12/4/2016)، وعليه وبالرجوع إلى بينات الشكوى تجد المحكمة أن البينة الوحيدة المقدمة في هذه الشكوى والتي تربط المشتكى عليه عدي بالجرم المسند إليه هي أقوال المشتكى عليه يزيد الشرطية التي توصلت المحكمة إلى بطلانها وبالتالي استبعادها من عداد البينات، وتبعا لذلك لم يبقى أي دليل قانوني يربط المشتكى عليه عدي بالجرم المسند إليه، وعلى صعيد متصل -وعلى فرض التسليم بصحة إفادة المشتكى عليه يزيد الشرطية- تبدي محكمتنا أن أقوال المتهم ضد متهم آخر هي بينة غير كافية للإدانة ما لم تؤيد بأية بينة أخرى وحيث أن إفلات المجرم من العقاب لا يضير العدالة بقدر ما يضيرها مصادرة حريات الأشخاص بناء على بينة غير قانونية، الأمر الذي يقتضي معه إعلان براءة المشتكى عليه عدي عن الجرم المسند إليه).
3- الحكم رقم 4156 لسنة 2022 – محكمة التمييز بصفتها الجزائية الصادر بتاريخ 2023-02-19 حيث جاء فيه : ( نجد أن الواقعة التي استخلصتها محكمة أمن الدولة جاءت من خلال بينات قانونية لها أصل ثابت في القضية والتي تمثلت باعتراف المميز من خلال إفادته لدى الضابطة العدلية بترويج المواد المخدرة وكذلك من اعترافه لدى المدعي العام بواقعة اتفاقه مع مصدر المكافحة على بيعه المواد المخدرة مقابل الثمن وكذلك اعترافه بتعاطي المواد المخدرة بالإضافة إلى شهادة الشاهد الملازم مراد المواجدة والضبط المبرز ن/1 والمتضمن ضبط المواد المخدرة في منزل المميز.
وحيث أن استخلاص محكمة أمن الدولة جاء استخلاصاً سائغاً ومقبولاً ومن أدلة قانونية لها أصل ثابت في القضية وتؤدي إلى النتيجة التي توصلت إليها فإننا نقرها على ما توصلت إليه من حيث الواقعة الجرمية) .
4- الحكم رقم 4047 لسنة 2022 – محكمة التمييز بصفتها الجزائية الصادر بتاريخ 2022-12-29 حيث جاء فيه : ( وحيث أنه لا يلتزم المتهم بتقديم أي دليل على براءته إذ الأصل هو البراءة وحيث إنه قد أنكر المتهم شادي الاتهام المسند إليه بكافة مراحل التحقيق وحيث كانت المحكمة ولما أبدته من أسباب تتشكك في صحة بينات النيابة العامة الأمر الذي دعاها إلى استبعادها .
وحيث لم يثبت للمحكمة ارتكاب المتهم للتهم المسندة إليه في مستهل هذا القرار بشكل قاطع وجازم ومن ثم فإنه يتعين والحالة هذه أن تقضي المحكمة ببراءة المتهم حمزة مما أسند إليه) .
5- الحكم رقم 3572 لسنة 2022 – محكمة التمييز بصفتها الجزائية الصادر بتاريخ 2022-12-29 حيث جاء فيه : ( وحيث أن الأحكام الجزائية تبنى على الجزم واليقين وليس على الشك والتخمين وإن الأصل في الإنسان البراءة وإن المتهم بريء حتى تثبت إدانته كما أن الدليل إذا طرقه الاحتمال فَسُدَ به الاستدلال كما أن الشك حيثما ورد يفسر لمصلحة المتهم وحيث لم ترد أية أدلة أو بينة قاطعة أو جازمة تربط المتهم محمد عبد العال بخصوص واقعة جناية هتك العرض المسندة إليه وفقاً لأحكام المادة (299) من قانون العقوبات مكررة ثمان مرات مما يتعين معه إعلان براءة المتهم محمد من جناية هتك العرض المسندة إليه).
[1] محمود نجيب حسني ، شرح قانون الإجراءات الجنائية، ط3، دار النهضة العربية، 1998، ص 782
[2] د. محمد سليم العوا، مبدأ الشرعية في القانون الجنائي المقارن” مجلة القضاء و التشريع- وزارة العدل التونسية، عدد 3 السنة الحادية و العشرين 1171، ص 243
[3] مروك نصر الدين، محاضرات في الإثبات الجنائي، النظرية العامة للإثبات الجنائي، الجزء الأول، دار هومة للطباعة والنشر
والتوزيع، 2003 ،الجزائر، ص 222 .
[4] hلسيد محمد حسن الشريف، النظرية العامة للإثبات الجنائي، دار النهضة العربية، 2002 ،مصر، ص 377.
[5] العز بن عبد السلام ،قواعد الأحكام في مصالح الأنام، تحقيق: نزيه كمال حماد وعثمـان جمعه ضميرية، ط الأولى ( دمشق ، دار القلم ،١٤٢١هـ ، ٢٠٠٠م)٢/٦
[6] علا رحيم كريم، قرينة البراءة في المحكمة الجنائية الدولية، رسالة ماجستير ، كلية القانون ، جامعة بابل 2005 ، ص 37
[7] خالد سري صيام، شرح قانون الإجراءات الجنائية، دار النهضة العربية، 2007، ص 112
[8] هلالي عبد اللاه أحمد، الحقيقة بين الفلسفة العامة والإسلامية وفلسفة الإثبات الجنائي، ط2 ، دار النهضة العربية، ص 623
[9] احمد فتحي سرور، الوسيط في قانون الإجراءات الجنائية، ج2، المحاكمة، دار النهضة العربية ، 1993، ص 847 وما بعدها
——————————————————————————————
قوانين أردنية مهمة
