قاعدة المطلق يجري على إطلاقه
تُعَد قاعدة المطلق يجري على إطلاقه إذا لم يقم دليل التقييد نصاً أو دلالة من أهم القواعد الفقهية، والتي هي فرعاً من فروع قاعدة إعمال الكلام أولى من إهماله، ولها الكثير من الأمثلة في القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، ولها أهمية بالغة فيما يخص فقه العبادات، المعاملات، والأحوال الشخصية، والكفارات ولنا في سبيل معرفة ذلك الإسهاب في الحديث عن تلك القاعدة من خلال مقالنا التالي. وفي مقال منفصل قمنا باستعراض تطبيقات لقاعدة المطلق يجري على إطلاقه.
جدول المحتويات
أولًا: حقيقة قاعدة المطلق يجري على إطلاقه:
ثانيًا: آراء العلماء في القاعدة:
ثالثا : قاعدة المطلق يجري على إطلاقه في القانون الأردني
سوف نتعرف من خلال مقالنا التالي على ماهية تلك القاعدة، والتأصيل الشرعي لها وارتباطها بغيرها من القواعد، ثم ننتقل لمعرفة آراء العلماء فيما يخص تلك القاعدة، وذلك على النحو الآتي بيانه:
أولًا: حقيقة قاعدة المطلق يجري على إطلاقه:
سنتعرف على حقيقة قاعدة المطلق يجري على إطلاقه وذلك إذا ما بيَّنا تعريف القاعدة، وقمنا بعرض أدلة مشروعيتها من القرآن الكريم والسُّنة النبوية المُشَّرفة، ومدى ارتباطها بغيرها من القواعد الفقهية الأخرى، ثم نتعرض لآراء العلماء في تلك القاعدة وذلك كما يلي:
1_التعريف بقاعدة المطلق يجري على إطلاقه:
قبل التعريف بالقاعدة ذاتها، لابد لنا في البداية أن نورد تعريفاً للمطلق والمقيد وفقاً لما ساقه العلماء على النحو التالي:
· تعريف المُطْلق:
للمطلق تعريفاتٍ عدة وفقاً لاختلاف الفقهاء كلٍ بحسب تصوره، ولكنها تصب جميعها في نفس القالب، وإلينا بعض تلك التعريفات:
فقد عرفه ابن قدامة بأنه: ” المطلق المتناول لواحد لا بعينه باعتباره حقيقة شاملة لجنسه”.[1]
وعرفه الزركشي السيوطي بأنه: ” اللفظ الدال على الماهية بلا قيد “.[2]
من أمثلة المطلق بالقرآن الكريم:
قول الحق تبارك وتعالى: ” وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ “[3] فإن دلالة كلمة رقبة أنها لفظ غير مُعَيَّن عن جنس الرقاب، فهو مطلق وغير مقيد بقيد.
حكم المُطْلَق:
قال الزركشي: “أعلم أن الخطاب إذا ورد مطلقاً لا مقيد له حُمل على إطلاقه”[4]
بمعنى أن النص إذا ورد مطلقاً عاماً دون ورود نص يقيده، فإنه يُطبق على إطلاقه.
مثال توضيحي: ما ورد في تحريم نكاح أم الزوجة في قوله تبارك وتعالى” وأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ “[5].
فإن أم الزوجة تحرم على زوج ابنتها بمجرد العقد على الابنة، فالنص القرآني هنا جاء مطلقاً وغير مقيداً بالدخول أو عدم الدخول، على عكس النص الذي ورد بتقييد تحريم الربيبة[6] بالدخول على أمها، كما ورد بقوله تبارك وتعالى” وربَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ “[7]
إذاً فإن المطلق يبقى على إطلاقه ومنه فأم الزوجة تحرم على زوج ابنتها تحريماً مطلقاً دون تقييد بالدخول أو عدم الدخول، بينما يعمل بالمقيد بقيده فتحرم البنت على زوج أمها بقيد الدخول بالأم.[8]
· تعريف المقيد:
عرفه ابن قدامة بأنه: ” اللفظ المتناول لمعين أو غير معين[9] موصوف بأمر زائد على الحقيقة الشاملة لجنسه”[10]
مثال على المقيد:
قول الله تعالى: ” وَما كَان لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ” [11]
فكلمة رقبة الواردة في الآية هنا جاءت مقيدة بكونها “مؤمنة” كفارة القتل الخطأ هي عتق رقبة مؤمنة، فإذا أعتق المُكَفِّر رقبة كافرة، لم يجزئه ذلك، ولم يكن قائماً بما أمر به تعالى[12].
التعريف بقاعدة المطلق يجري على إطلاقه:
أن اللفظ إذا ورد مطلقاً فالأصل أن يبقى على إطلاقه كما ورد، ولا يُقيد بأي قيد معين أو وصف معين، حتى يأتينا دليل يدل على التقييد، وهذا التقييد إما أن يكون جاء بالنص، أو بالدلالة[13].
فالتقييد بالنص قد يكون بلفظ خاص مثل:
- التقييد بصفة: كقولنا فرس عربي، فكلمة عربي هنا صفة للفرس فهي قيدته بعد أن كان مطلقاً فأصبح المطلوب هنا فرس عربي، فلا يجزئ فرس غير عربي.
- التقييد بالحال: مثل دخلت راكباً، فكلمة راكباً هنا تبين حال الدخول فهي قيدته بأن بينت حاله.
- التقييد بالإضافة: مثل “اشتر لي فرساً بكر”، المضافة هنا قيدت الفرس بأن يكون فرس بكر.
- التقييد بالمفعول: كقولنا بعه من فلان، كلمة فلان هنا قيدت الشراء من شخص معين بعد أن كان مطلقاً.
- التقييد بالنهي: مثل لا تبعه في سوق كذا، فالبيع لم يعد مطلقاً في أي سوق.
- التقييد بالشرط: مثل الطلاق المعلق علي شرط، فتعليق الطلاق بالشرط يقيد الطلاق ويمنع حدوثه بعدم تحقق الشرط.
- التقييد بالاستثناء: مثل قول القائل إن خرجت إلا بإذني فأنت كذا؛ فبعد أن كان الخروج مطلقاً جاء الاستثناء بالإذن ليقيده[14].
وأما التقييد بالدلالة فيكون:
- بدلالة الحال: مثل قول القادم لبلدة لغيره استأجر لي شقة، فاستأجرها له بعد سنة، فهنا لا ينفذ فعل المأمور، حيث إن استئجاره للشقة كان لسد حاجة الآمر في الحال، وليس بعد سنة، فهنا لا ينفذ فعل المأمور.
- بدلالة العرف: كما لو وَكَّل شخص غيره ببيع سيارة تقيد بثمن المثل، والنقد الحال، فليس للوكيل أن يبيعها[15].
2_التأصيل الشرعي للقاعدة ومدى ارتباطها بغيرها من القواعد:
نستوضح من خلال السطور التالية استدلال تلك القاعدة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، كما يلي:
أ_ الاستدلال بالقرآن الكريم:
قول الله تعالى: ” وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أعوذ بالله أن أَكُونَ مِنَ اَلْجَاهِلينَ”[16]
وجه الدلالة من الآية الكريمة:
تدل هذه الآية على أن الإطلاق يبقى على إطلاقه، حيث أمر الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل على لسان موسى؛ أن يذبحوا بقرة، دون أي قيد أو شرط، ولو أنهم استجابوا لأمره سبحانه وتعالى وذبحوا أي بقرة لأجزأهم ذلك، ولكنهم عندما بدأوا يتساءلون، شدد الله عليهم وقيد البقرة بصفات معينة بعد ذلك، وقد وصف بنو إسرائيل بالتعنت لسؤالهم هذا، كما ذكر في تفسير هذه الآية[17]
وقوله تعالى: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقرآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ”[18].
وجه الدلالة:
جاء في تفسير هذه الآية ألا تسألوا عن أشياء لا داعي للسؤال عنها، فلعله ينزل بسبب سؤالكم هذا تشديد أو تضييق، أي أن ما لم يذكر في الكتاب أو السنة، اسكتوا عنه، إذ أن الأصل أن النص إن جاءنا مطلقاً علينا أن نحمله على إطلاقه ولا نتعنت في تقييده دون أن يرد ما يقيده، فذلك أيسر وأهون على المسلمين[19] .
ب_ الاستدلال بالسنة النبوية المطهرة:
ما جاء بقول النبي صلى الله عليه وسلم ” ذروني وما تركتم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم”[20]
وجه الدلالة من الحديث:
أن نبينا صلى الله عليه وسلم نهانا عن كثرة السؤال عن أشياء لم ترد، فحثنا على الالتزام بتطبيق ما جاء به الشرع على إطلاقه وكما أمرنا الله ورسوله به، حيث كان هلاك الأمم السابقة سببه كثرة سؤالهم وتعنتهم.
وأيضاً ما جاء عن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، قال ” لما نزلت “وَلَلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً”[21] قالوا يا رسول الله أفي كل عام، فسكت، فقالوا يا رسول الله أفي كل عام، قال: لا ولو قلت نعم لوجبت[22] ،فأنزل الله ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ”[23]
وجه الدلالة:
السؤال عن أمر الحج الذي ورد مطلقاً، فيه تقييد وتضييق على الناس، ولو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم لوجب ذلك، وأنه قد سكت في المرة الأولى وكأنه يقول لا داعي لهذا السؤال ثم بين أنه لو قال نعم لوجبت، فالأصل في المطلق إذا ورد مطلقاً أن يبقى على إطلاقه ولا نحاول أن نقيده دون أن يكون هناك نص أو دلالة.
مدى ارتباط القاعدة بغيرها من القواعد:
تعد قاعدة المطلق يجري على إطلاقه فرع من فروع قاعدة ” إعمال الكلام أولى من إهماله حيث إنها ترتبط بها من ناحيتين:
- الناحية الأولى: أن الإطلاق والتقييد من صفات الألفاظ والكلام ما هو إلا ألفاظ فكان هذا الرابط الأول بين القاعدتين.
- الناحية الثانية: أن إعمال الكلام يقتدي حمله على إطلاقه في حال عدم وجود ما يقيده فلو قلنا بعدم العمل بالمطلق إلى حين إيجاد المقيد، كان ذلك إهمال للكلام والقاعدة تقول إعمال الكلام أولى من إهماله، فكان هذا الرابط الثاني بين القاعدتين.
ثانيًا: آراء العلماء في القاعدة:
أ_ الصور المتمثلة في القاعدة:
الصورة الأولى: إجراء المطلق على إطلاقه:
ومن أمثلة تلك الصورة: لو وَكَل شخص، شخصاً آخر أن يشتري له سيارة بقوله اشتر لي سيارة، فذهب هذا الوكيل فاشترى له سيارة بيضاء مثلاً، فقال له الموكل أردت السيارة حمراء، فإن كلام الموكل هنا لا يقبل لأن توكيله مطلق والمطلق يجري على إطلاقه، فلما قال الموكل للوكيل اشتر لي سيارة، لم يقل حمراء ولا بيضاء ولا صفراء، كما لم يقل طويلة، أو قصيرة، أو من النوع الفلاني وإنما قال اشتر لي سيارة وبالتالي أي سيارة يأتي بها المفترض أن يقبلها الموكل، لأنه أطلق القول والمطلق يجري على إطلاقه كما تقول القاعدة.
الصورة الثانية: تقييد المطلق بالنص:
ومن أمثلتها: لو وَكَّل شخص آخر بشراء سيارة: فقال له اشتر لي سيارة سوداء، فقام الوكيل بشراء سيارة حمراء فهو لا يلزم الموكل قبول هذه السيارة لأنه قد قيد كلامه بأن السيارة سوداء، والوكيل قد خالف ذلك، والقاعدة تقول “المطلق يجري على إطلاقه ما لم يقم دليل التقييد نصاً” فبالتالي لا يمكن الوكيل أن يُلزم الموكل بهذه السيارة لأنه خالف مقتضى تقييد الموكل، الموكل اشترطها سيارة سوداء، والوكيل جاء بها حمراء فبالتالي لا يلزم الموكل قبولها.
الصورة الثالثة: تقييد المطلق بالدلالة:
الدلالة المقيدة للمطلق قد تأتي من ناحية العرف وقد تأتي من أحوال الشخص الذي يتكلم بهذا الكلام المطلق.
من أمثلة ذلك: لو كان هناك شخص يعمل في حمل الأمتعة فوَكَّل صديقاً له بأن يشتري له سيارة، فاشترى له الوكيل سيارة صغيرة لا تصلح لحمل الأمتعة، فإنه لا يلزم الموكل قبول هذه السيارة، لأنه قام دليل التقييد عن واقع الحال، فالموكل شخص يعمل في حمل الأمتعة، وبالتالي وَكَّل هذا الشخص أن يشتري له سيارة لعمله، فلابد أن يراعي هذه الحالة التي يعمل فيها هذا الشخص الموكل، فهو حتى وإن لم يقل له اشتر لي سيارة لحمل الأمتعة، إلا أنه ينبغي على الوكيل أن يتقيد بهذه الحالة لأن حالته تدل على أنه أراد هذه السيارة.
بالأحوال التي اتفق فيها العلماء في قاعدة حمل المطلق على المقيد:
- الحالة الأولى: في حال اتحاد الحكم والسبب:
اتفق العلماء على أن المطلق يحمل على المقيد في حال اتحاد الحكم والسبب، فلفظ الدم الذي ورد مطلقاً في قوله تعالى “حُرِّمَتْ عَلَيْكُم الْمَيْتَةُ والدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيرِ الله بِه”[24] يقيد الدم المسفوح، الوارد في قوله تعالى: ” قُلْ لا أَجِدُ في مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أو دَماً مَسْفُوحاً أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ”[25] فيحرم من الدم المسفوح فقط، وذلك حملاً المطلق على المقيد لاتحاد الحكم والسبب[26].
· الحالة الثانية: في حال اختلاف الحكم والسبب:
اتفق العلماء على عدم حمل المطلق على المقيد في حال اختلاف الحكم والسبب [27].
فلفظ الأيدي المطلق الذي ورد في قوله تعالى “وَالْسَّارِقُ وَالسَّارِقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبا نَكَالاً مِنَ الله”[28] لا يحمل على لفظ الأيدي المقيد، الذي ورد في قوله تعالى ” يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِق”[29] بل يعمل بالمطلق بإطلاقه والمقيد بقيده. يقول الغزالي وإن تباعدا من كل وجهة فهو ممنوع بالإجماع”[30]
· الحالة الثالثة: في حال اختلاف الحكم واتحاد السبب:
اتفق العلماء على عدم حمل المطلق على المقيد أيضاً في حال اختلاف الحكم واتحاد السبب، فلفظ الأيدي الذي ورد مقيداً في قوله تعالى ” يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إلَى الصَلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُم إِلَى الْمَرافِق”[31] لا يحمل عليه لفظ الأيدي المطلق الذي ورد في قوله تعالى “وإنْ كُنْتُم مَرضَى أَو عَلَى سَفَرٍ أَو جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِط أَو لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَمُوا صَعِيداً طَيباً فَامْسَحُوا بِوجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ مِنْهُ”[32].
فلا يحمل المطلق على المقيد هنا لاختلاف الحكم مع أن السبب واحد[33].
الحالات التي اختلف فيها الفقهاء في قاعدة حمل المطلق على المقيد:
- الحالة الأولى: في حال اتحاد الحكم واختلاف السبب: تتمثل هذه الصورة في تحرير الرقبة في كفارة القتل، وكفارة الظهار، ففي الظهار يقول الله تعالى ” وَالَّذِين يُظَاهِرونَ مِن نِسَائِهِم ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةِ”[34] فلفظ رقبة في الآية ورد مطلقاً، حيث تحدثت الآية عن كفارة الظهار، إلا أن نفس اللفظ – رقبة ورد مقيداً في كفارة القتل الخطأ، حيث قال تعالى “وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ”[35] فالحكم واحد وهو الإعتاق، ولكن السبب مختلف فهو في النص الأول الظهار، وفي الثاني القتل، فاختلف العلماء في حمل مطلق الرقبة في كفارة الظهار على القيد بالإيمان في كفارة القتل الخطأ[36]، فهناك مذهبان:
المذهب الأول: وهو مذهب الجمهور، ويقضي بحمل المطلق على المقيد في هذه الصورة، إلا أن أصحاب الشافعي اختلفوا فيما بينهم فمنهم من قال بحمل المطلق على المقيد مطلقاً من غير حاجة إلى دليل آخر، أو أن حمله يكون من باب اللغة، ومنهم من قال بحمل المطلق على المقيد هنا إذا وجد بينهما علة جامعة.[37]
المذهب الثاني: وهو مذهب الحنفية، حيث ذهب أبو حنيفة ومن معه إلى منع حمل المطلق على المقيد في هذه الصورة.[38]
- الحالة الثانية: في حال كان الإطلاق والتقييد في سبب الحكم، والموضوع والحكم واحد:
اختلف العلماء في مسألة زكاة الفطر على المملوك غير المسلم، فاختلفوا في حمل المطلق على المقيد هنا على مذهبين:
المذهب الأول: ذهب الجمهور في هذه الحالة إلى حمل المطلق على المقيد، فأوجبوا زكاة الفطر على المملوك غير المسلم[39].
المذهب الثاني: ذهب الحنفية إلى عدم حمل المطلق على المقيد في هذه الحالة، فأوجبوا الزكاة على المملوك مطلقاً[40].
فيما يتعلق بأدلة الفريق الأول:
استدل أصحاب هذا الرأي بالآتي:
- إن العمل يحمل المطلق على المقيد عمل بالدليلين، وعدم الحمل فيه إهدار لأحدهما، والعمل بهما خير من إهدارهما.
- إن القرآن كالكلمة الواحدة في وجوب بناء بعض على بعض، فإذا وردت كلمة في القرآن مبينة حكم من أحكامها فلابد أن يكون الحكم واحداً في كل موضوع نذكر فيه الكلمة.
- في الحمل زيادة في الاحتياط إذ المطلق ساكت عن القيد، والقيد قد يكون مراداً، والمقيد ناطق به فلا يحتمل عدم الإرادة، فيكون العمل بالمقيد خروجاً من العهدة بيقين، وتركه ترك لوصف قد يكون مرداً للشارع، فيجب حمل الساكت على الناطق للاحتياط.[41]
فيما يتعلق بأدلة الفريق الثاني:
استدل أصحاب الرأي الثاني بالآتي:
- قالوا إن المطلق حقيقة، ولا يترك شيء من الحقيقة إلا بدليل، ولا يوجد دليل يصرفه عن الإطلاق، وإذا وجد؛ فإما أن يكون مقارناً في زمان الإطلاق، أو متأخراً عنه، والأول معدوم، والثاني إن وجد كان ناسخاً المطلق.
- قالوا إن تقييد المطلق فيه زيادة، فمن قيد الرقبة بالإيمان فقد زاد شرطاً لا يقتضيه اللفظ، والزيادة على النص نسخ، ونسخ القرآن بالقياس لا يجوز.[42]
- أن الأصل التزام ما جاء عن الشارع من دلالات الألفاظ على الأحكام، فالمطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده، لأن كل نص حجة قائمة بذاتها، وتقييده من غير دليل تضييق من غير أمر الشارع[43].
- إن قياس المنصوص على المنصوص عند الحنفية باطل، لأنه اعتقاد النقص فيما تولى الله تعالى بيانه، ولا يجوز ذلك، والحمل بالقياس ليس تعدية لحكم شرعي، بل هو تعدية للعدم الأصلي، حيث إن المطلق ساكت عن القيد، والمقيد موجب للقيد، فلا يدل إيجاب القيد في المقيد على تحريم المطلق في الإطلاق، فإن حملنا المطلق على المقيد نكون قد أثبتنا الحكم للمسكوت عنه وأبطالنا حكم المطلق المنصوص، ولا يجوز ذلك بالقياس.[44]
- إن للمطلق حكماً معلوماً وهو الإطلاق، وفي حمله على المقيد إبطال لحكمه، فحمل أحدهما على صاحبه مثل حمل صاحبه عليه، لأن كل واحد منهما ترك الخطاب، فلماذا نترك العمل بأحدهما عند اجتماعهما مع إمكان العمل بهما.[45]
فيما يتعلق بالرد على مذهب الحنفية:
- قولهم إن تقييد الرقبة بالإيمان يعتبر نسخاً، نقول إن التقييد هنا ليس فيه زيادة، بل هو نقصان، لأن مطلق الرقبة يتناول المؤمنة والكافرة، وتقييدها بالإيمان نقصان وليس زيادة.
- إن الزيادة على النص تعتبر بياناً وليس نسخاً، وإخراج الرقبة الكافرة إخراج لبعض ما يتناوله النص، فهو لا يعد نسخاً.
- إن تقييد الرقبة بالإيمان ليس فيه قياس منصوص على منصوص، بل هو قياس مسكوت عنه على منطوق به، كما في الكفارات، فقد نص الشارع على الإيمان في كفارة القتل، فصار القيد منطوقاً به، وأطلق في الظاهر فصار مسكوتاً عنه، فاشترط الإيمان في الظهار بقياس المسك[46]وتا عنه على المنطوق به.[47]
وقد أدى هذا الخلاف بين الفقهاء خلافاً في بعض الفروع ومنها:
- مسألة تقييد الرضاع المحرم بعدد.
- صدقة الفطر على الرقيق غير المسلم.
- اشتراط الإيمان في رقبة كفارة الظهار.
- اشتراط التتابع في صوم كفارة اليمين.[48]
ثالثا : قاعدة المطلق يجري على إطلاقه في القانون الأردني
فقد وردت في القانون المدني والمذكرة الإيضاحية ومجلة الأحكام العدلية ، وكذلك استدلت بها محكمة التمييز
في القانون المدني المادة (218)
المطلق يجري على أطلاقه المطلق يجري على أطلاقه إذا لم يقم دليل التقييد نصا أو دلاله.
مجلة الأحكام العدلية المادة (64) المطلق يجري على أطلاقه إذا لم يقم دليل التقييد نصاً أو دلالة . (انظر المواد 572 و817 و819 و820 و1414 و1474 و1482 و1483 و1484 و1494 و1495) .
المذكرة الإيضاحية للمواد ( 444 – 447 )
المادة (309) :
وأثر الإبراء انقضاء الدين كما نصت على ذلك المادة (444) من هذا المشروع وهي تطبيق للقواعد العامة في انقضاء الحقوق .
وينقضي الحق بالإبراء ، دون توقف على مراعاة شكل خاص ، ولو كان متعلقا بالتزام يشترط فيه شكل فرضه القانون أو الاتفاق ، كما لو ابرأه من دينه الموثق بالرهن على العقار مثلا ، لان مراعاة الشكل الخاص بالقانون أو الاتفاق أنما تسري على الالتزام بالدين دون انقضائه . ولأنه بمقتضى المادة ( 1562) من المجلة سقط الحق بالإبراء ، والمطلق يجري على أطلاقه المادة (64) من المجلة . وشرحها لعلي حيدر وتراجع نظرية الالتزام في الشريعة للدكتور شفيق شحاتة ص 113 بند 94.
وهذه المواد تقابل المواد ( 369- 370) سوري ومشروع أردني و( 317 – 372) مصري و( 420- 422) عراقي .
الحكم رقم 3535 لسنة 2020 – محكمة التمييز بصفتها الجزائية
الصادر بتاريخ 2021-01-28
ولم يسبق لمحكمة التمييز التدقيق في الإجراءات أو الحكم أو القرار المطعون فيه فعليه أن يقدم الإضبارة إلى محكمة التمييز مرفقة بالأمر الخطي وأن يطلب بالاستناد إلى الأسباب الواردة فيه إبطال الإجراء أو نقض الحكم (القرار) وعلى ذلك فإن عبارة (لوقوع إجراء مخالف للقانون) قد وردت مطلقة والمطلق يجري على إطلاقه أي سواء الإجراء المخالف للقانون يتعلق بحق عام أو بحق شخصي فإن حق وزير العدل أن يطلب إلغاءه ما دام أن هذا الإجراء قد تم في دعوى جزائية (راجع تمييز جزاء رقم 27/1971 هيئة عامة تاريخ 7/8/1972 منشورات مركز عدالة) .
الحكم رقم 5570 لسنة 2020 – محكمة التمييز بصفتها الحقوقية
الصادر بتاريخ 2020-12-21
وعليه وحيث إن محكمة البداية بصفتها الاستئنافية وفي حكمها المميز لم تتحقق من وجود علاقة أو رابطة قانونية أو واقعية بين المدعي والمميزة ( المطلوب إدخالها) وفق مقتضى المادة (113/1) سالفة الذكر ولم تتعرض لهذه المسألة واكتفت بالقول إن كلمة (خصم) من المادة المذكورة جاءت مطلقة والمطلق يجري على إطلاقه وبالتالي فإن من حق المدعي إدخال شخص ثالث …. )
الحكم رقم 5451 لسنة 2020 – محكمة التمييز بصفتها الحقوقية
الصادر بتاريخ 2020-12-21
فقد عرفت الحادث بأنه : (( كل واقعة ألحقت ضرراً نجم عن استعمال المركبة، أو انفجارها، أو حريقها، أو تناثر أو سقوط أشياء منها أو حركتها أو اندفاعها الذاتي)). يستفاد من ذلك : أنه لا يشترط لاعتبار الواقعة بالمعنى الوارد في المادة المذكورة أن تكون المركبة بحالة سير، بل تعتبر الواقعة حادثاً ولو كانت المركبة في حالة وقوف كما هو الحال عند حريقها أو انفجارها حيث لم يشترط النص أن تكون المركبة في حال حدوث أي من هاتين الواقعتين أن تكون المركبة في حالة سير، بل جاء النص من هذه الناحية مطلقاً والمطلق يجري على إطلاقه .
قرار ديوان التفسير استعان بقاعد المطلق يحري على إطلاقه
فقد ورد في قرار الديوان الخاص لتفسير القوانين في محكمة التمييز بناء على طلب دولة رئيس الوزراء بكتابه رقم ت/6720/4/1 تاريخ 10/ 10/ 1404 ه الموافق 9/ 7/ 84 لتفسير المادة (108) من قانون التربية والتعليم رقم 16/ 1964 والمادتين (33 ، 49) من نظام البعثات رقم 115/ 1966 والمادة (13/أ) من نظام العلاوات الموحد للموظفين ذي الرقم 3/ 1977 لمعرفة:
فأننا نرى انه يستحق العلاوة المنصوص عليها في الفقرة الثانية من البند ( ) من المادة (33) ومقدارها ثلاثة أرباع راتبه وثلاثة أرباع علاواته لان النص قد ورد على استحقاق الموظف المتزوج لهذه النسبة بصورة مطلقة والمطلق يجري على أطلاقه ما دام انه ليس في النظام نص يقيده دلالة أو صراحة لا سيما وان العلة في استحقاق الموظف لهذه النسبة من الراتب والعلاوة هي كون المبعوث متزوجا ، ومعلوم أن الحكم القانوني يدور وجودا وعدما مع علته لا مع حكمته أي انه يوجد حيث توجد علته ولو انتفت حكمته لان العلة هي وصف منضبط يمكن التحقق من وجوده وعدمه أما الحكمة فهي امر تقديري خفي غير منضبط فلا يمكن التحقق من وجوده حتى يوجد الحكم .
[1] روضة الناظر: لابن قدامة، (2/109)
[2] الإتقان في علوم القرآن: للسيوطي، 2/15، البحر المحيط: للزركشي، 3/3
[3] سورة البلد، آية 2- 3
[4] البحر المحيط: للزركشي، 4/284.
[5] سورة النساء، آية 93.
[6] الربيبة: هي ابنة امرأة الزوج من غيره.
[7] سورة النساء، آية 93 .
[8] البحر المحيط: لأبو حيان، 4/84.
[9] انظر روضة الناظر: لابن قدامة 1/ 206 المعين مثل قولنا رقبة مؤمنة، وغير المعين مثل قول الله تعالى” فتحرير رقبة” فلفظ رقبة يتناول واحداً غير معين من جنس الرقاب.
[10] روضة الناظر: لابن قدامة، 1 / 206
[11] سورة النساء، آية 92.
[12] تفسير آيات الأحكام: للصابوني، 1/388.
[13] القواعد الكلية والضوابط الفقهية: لشبير، 27
[14] شرح القواعد الفقهية: للزرقاء، 423
[15] المرجع السابق، ص 423
[16] سورة البقرة، آية 67.
[17] مختصر تفسير ابن كثير 1/67.
[18] سورة المائدة: آية 101.
[19] مختصر تفسير ابن كثير 1/337
[20] صحيح مسلم، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، 2/ 975 حديث رقم 1337
[21] سورة آل عمران آية 97
[22] سنن ابن ماجة، كتاب الحج، باب فرض الحج 4/ 393 حديث رقم 2885.
[23] سورة المائدة آية 101.
[24] سورة المائدة، آية 3
[25] سورة الأنعام، آية 145.
[26] الترخيص: للجويني،3/166، البحر المحيط: للزركشي، 3/ 7، إرشاد الفحول: للشوكاني، 246، كشف الأسرار: للنسفي، 1/ 143، الإبهاج: لابن السبكي، 2/ 200
[27] إرشاد الفحول: للشوكاني، 246، البحر المحيط: الزركشي، 3/ 6، الترخيص: للجويني، 2/ 166، التبصرة: للشيرازي، 1/ 212
[28] سورة المائدة آية، 38
[29]سورة المائدة، آية 6
[30] المنخول: للغزالي، 1 / 256.
[31] سورة المائدة: آية 6.
[32] سورة المائدة : آية 6.
[33] الأحكام: للآمدي، 3/ 8.
[34] سورة المجادلة: آية 3.
[35] سورة النساء: آية 92.
[36] الأحكام: للآمدي، 3 / 7، المحصول: للرازي، 1/ 459، أثر الاختلاف للخن، 253، البحر المحيط: للزركشي، 3 / 6.
[37] الأحكام: للآمدي، 3 / 7، المحصول: للرازي، 1/ 459، أثر الاختلاف للخن، 253.
[38] أثر الاختلاف: للخن، 253.
[39] الأم: للشافعي، 2/ 84، الحاوي الكبير: للمرداوي، 3/ 358.
[40] أثر الاختلاف: للخن، 252.
[41] المحصول: للرازي، 1 / 457، البرهان: للجويني، 1/158، الأحكام: للآمدي، 3/7، إرشاد الفحول: للشوكاني، 246، أثر الاختلاف: للخن، 254
[42] كشف الأسرار: للبخاري، 2/ 36
[43] أثر الاختلاف: للخن 254
[44] شرح التلويح: للتفتازاني، 1/118
[45] أصول السرخسي، 1/268.
[47] قواطع الأدلة: للسمعاني، 230.
[48] فواتح الرحومات: للأنصاري، 1/392، أثر الاختلاف: للخن، 257.