أمن المجتمع ومصلحته لتبرير التوقيف في القانون الأردني

ـ في مستهل حديثي عن أمن المجتمع ومصلحته لتبرير التوقيف في القانون الأردني، ينبغي أن أشير إلى أن التوقيف يعد من الموضوعات التي شغلت اهتمام المفكرين وذلك من خلال المؤتمرات الدولية والمناقشات الفقهية، ولقد سارت العديد من التشريعات في طريق التعديلات للنصوص المتعقلة بالتوقيف حتى يتم تطويره ليحقق الوظيفة التي شرع من أجلها، ولازدياد الاهتمام العالمي بحماية الحريات الشخصية.

ـ ويلاحظ على نصوص قانون أصول المحاكمات الجزائية الأردني رقم (9) لسنة 1961 والمتعلقة بتنظيم التوقيف أنها لم يطرأ عليها تعديل أو تطوير، بل وترجع أصلها التاريخي إلى التشريع الجزائي العثماني، الأمر الذى يحتاج وقفة جريئة من المشرع الأردني، لإعادة النظر في أحكام التوقيف لتتفق مع الحكمة التي شرع من أجلها.

وترتيباً على ما تقدم سوف أحاول في هذا المقال الهام تسليط الضوء على أمن المجتمع ومصلحته، لتبرير التوقيف وذلك من خلال العناصر الآتية:

أولاً: مفهوم التوقيف وتكييفه القانوني:-

ثانياً: التوقيف هو الوسيلة الوحيدة لتجنب الإخلال بالنظام العام الناجم عن الجريمة

ثالثاً: معايير تقدير وجود الإخلال بالنظام العام لتبرير التوقيف

رابعاً: التوقيف هو الوسيلة الوحيدة للاتقاء من تمدد الجريمة

خامساً: اجتهادات محكمة التمييز الأردنية فيما يتعلق بأمن المجتمع لتبرير التوقيف

سادساً: الخاتمة

أولاً: مفهوم التوقيف وتكييفه القانوني:-

1- تعريف التوقيف:-

تعددت تعريفات ومسميات فقهاء القانون للتوقيف، فهناك من يذهب إلى أنه :(حبس المتهم في دار التوقيف خلال مدة التحقيق الابتدائي كلها أو بعضها أو إلى أن يصدر حكم نهائي في الدعوى).([1])

والبعض يرى بأنه :(إجراء من إجراءات التحقيق الجنائي يصدر ممن منحه الشارع هذا الحق، ويتضمن أمراً لمدير السجن بقبول المتهم وحبسه به ويبقى محبوساً مدة تطول أو تقصر حسب ظروف كل دعوى، حتى تنتهى بالإفراج عن المتهم أثناء التحقيق الابتدائي أو أثناء سير الدعوى، وإما ينتهى بصدور حكم في الدعوى ببراءة المتهم، أو بالعقوبة وبدء تنفيذها عليه).([2])

ـ وهناك من يرى أنه إيداع المتهم بالسجن خلال فترة التحقيق كليها أو بعضها أو إلى أن تنتهى محاكمته،([3]) أو أن سلب حرية المتهم مدة من الزمن تحددها مقتضيات التحقيق ومصلحته وفق ضوابط قدرها القانون.([4])

ـ وترتيباً على ما تقدم انقسم فقهاء القانون إلى اتجاهيين:-

الاتجاه الأول، يرى أن تسمية (الحبس المؤقت) أدق من مصطلح التوقيف، وذلك لأن الجبس الاحتياطي أو المؤقت يعبر صراحة عن إيداع المتهم في السجن، أما التوقيف فهو أقرب إلى القبض على المتهم، أما الاتجاه الثاني فيرى من وجهة نظره أن مصطلح التوقيف أدق من مصطلح الحبس المؤقت في الدلالة على طبيعة هذا الإجراء، حيث يميزه عن الحبس والاعتقال كعقوبة مقررة للجنايات أو الجنح أو المخالفات.

ـ وبالنسبة لموقف المشرع الأردني فقد انحاز للاتجاه الثاني، واستخدام مصطلح التوقيف للدلالة على توقيف المتهم مدة مؤقته قبل صدور الحكم.

2- التكييف القانوني للتوقيف:-

ـ مما لاشك فيه أن التوقيف يعد استثناء من قرينة البراءة، دعت إليه ضرورة التحقيق الابتدائي وأمن المجتمع ومصلحته، والتوقيف ليس عقوبة سالبة للحرية، وذلك على الرغم من أنه يسلب حرية المدعى عليه لفترة مؤقتة، ولكنه إجراء تحفظي.

ـ ويكاد يجمع فقهاء القانون على أن التوقيف من حيث تكييفه القانوني يعد من إجراءات التحقيق التي تتخذ بصفة احتياطية تجاه المدعى عليه، وذلك للحفاظ على سلامة التحقيق وتأمين أدلة الجريمة من أي عبث، ويمتاز بالطابع التقديري، حيث اللجوء إلى التوقيف يعد مسألة جوازيه وليست وجوبية، فيجوز تقريره إذا وجد المحقق أن مصلحة التحقيق تقتضيه.([5])

ـ ومن المسلم به أن مذكرة التوقيف تحمل طابع القرار القضائي لا الإداري، لذلك فهي تخضع بهذا التكييف للرقابة القضائية لا الرقابة الإدارية، كما يترتب عليها الآثار والنتائج ذاتها التي تتريب على معاملات التحقيق القضائية الأخرى مثل قطع التقادم.([6])

ـ جدير بالذكر أن التوقيف الاحتياطي وسيلة هامة لحفظ السلامة العامة، حيث يمنع المشتكى عليه من العودة لارتكاب جريمة، بخلاف إذا ما اطلق سراحه فربما ارتكب جرما، والتوقيف يحمى مصلحة وأمن الجماعة، خاصة في مواجهة المجرمين المعتادين على الإجرام والذين لا يترددون في ارتكاب الجريمة، والعودة لتكرارها مرة ثانية بل وثالثة، لذا يلزم التحفظ على هؤلاء وإبعادهم عن مسرح الجريمة وذلك لتهدئة الرأي  العام، فيعد التوقيف وسيلة فعالة لحفظ الأمن.

ـ ولا يخفى عن الفطنة أن التوقيف حماية لحق المتهم نفسه  بمعني  حمايته من الاعتداء عليه، لأنه  إذا اطلق سراحه قد يقع عليه هذا الاعتداء من ذوى المجنى عليه أو من أفراد المجتمع، ([7]) فتوقيفه يجعله في مأمن من انتقام المجنى عليه أو أهله وأقاربه, وتخفيف من غضب الجمهور ضده، والذى قد يثير سخطه مشاهدة المتهم طليقاً فيندفع للاعتداء عليه بسبب ضعف ثقته بجهاز العدالة.

٣-التمييز بين التوقيف والمصطلحات المتشابهة :-

  • التمييز بين التوقيف والقبض :

مما لاشك فيه أن القبض هو إجراء يصدر من السلطة المختصة بالتحقيق ويهدف إلي سلب حرية الشخص لمدة قصيرة، ولكنه يعد إجراء ضروري لا غني عنه للتوقيف وهو يختلف عن التوقيف في الأمور الآتية :-

  • السلطة المختصة بالتوقيف هي سلطة التحقيق ولا يجوز لها أن تنتدب مأمور الضبط القضائي، أما القبض فهو من أعمال التحقيق يشترك في مباشرته مأمور الضبط القضائي .
  • وبالنسبة للمدة فالتوقيف مدته أطول نسبيا عن القبض، فالقبض يجب إلا يتجاوز  الأربع وعشرين ساعة، ويلزم إطلاق سراح المقبوض عليه إذا لم يرسل إلى النيابة لاستجوابه خلال الأربع وعشرين ساعة الآخرين، كما أن حالات القبض تعتبر أوسع من حالات التوقيف، كذلك فالتوقيف قد يستمر من يوم إلى عدة اشهر.
  • يلزم قبل إصدار أمر التوقيف أن تقوم سلطة التحقيق باستجواب المدعي عليه، أما القبض فلا يلزم أن يسبقه استجواب المقبوض عليه .

وعلي الرغم من الاختلافات الجوهرية بين إجراء القبض وإجراء التوقيف، لكنهما يمسا الحرية الشخصية ويعد القبض مقدمة للتوقيف، لذا فإن المشرع الأردني  وضع لهما ضوابط محددة إذا تم مخالفتها  يبطل الإجراء وذلك لخطورتهما ومساسهما  بحرية الفرد.

ب-التوقيف والإحضار : جدير بالذكر أن مذكرة الإحضار أو الجلب تعني الأمر الخطي الموجه من المحقق  إلي رجال السلطة العامة بأن يحضروا أمامه شخصا، وفي حال عدم امتثاله لهذا الأمر يساق بالقوة الجبرية.([8])

ويتشابه الإحضار مع التوقيف في حجز حرية المدعي عليه في هذين الإجراءين، فالمدعي عليه الذي صدر ضده مذكرة إحضار ولم يمتثل أو حاول الهرب ..يجلب بالقوة رغما عنه، وقد تحجز حريته لمدة لا تجاوز الأربع والعشرون ساعة وفقا للمادة ( ١١١) فقرة (٢) من قانون أصول المحاكمات الجزائية .

والمشرع الأردني حدد حالات إصدار مذكرة إحضار وهي عدم  الامتثال لمذكرة الدعوي، وحال الخشية من فرار المدعي عليه، أما التوقيف فالمشرع اكتفي بتوافر مبرراته .

ج -التوقيف والاعتقال الإداري : يقصد بالاعتقال الإداري حجز الشخص في مكان ما ومنعه من الانتقال أو الاتصال بغيره لمدة غير محددة، وذلك بقرار من السلطة المختصة وفقا لنص تشريعي، لوقاية الأمن والنظام العام من خطورة الشخص الموقوف .

وجدير بالإشارة فإن الاعتقال الإداري يخضع في التشريع الأردني لأحكام قانون الدفاع الصادر سنة ١٩٣٥ والذي يمنح وزير الدفاع (رئيس الوزراء) الحق في أن يوعز بتوقيف أي شخص  بدافع تأمين السلامة العامة والدفاع عن الأردن وفقا لما جاء  في المادة (٢) من نظام الدفاع كما أن هذه السلطة مخولة أيضا لوزير الداخلية والمحافظين ومتصرفي الأولية ومدراء الأقضية ليمارسوها بحق الأشخاص الذين يقومون بأية أعمال تخل بسلامة المملكة .

ولذا فإن التوقيف يختلف عن الاعتقال الإداري في عدة وجوه أهمها ما يلي  :

  • التوقيف يستند إلى اتهام الموقوف بارتكاب جريمة، أما الاعتقال الإداري فهو يستند إلى حالة الخطورة الإجرامية للمتهم، والاشتباه أنه خطر علي الأمن العام، فهدفه منع الجريمة والوقاية منها .
  • يشترط في التوقيف استجواب المتهم قبل الأمر بتوقيفه مع إبلاغه بأسباب التوقيف، أما الاعتقال الإداري لا يشترط استجواب المعتقل لأن اعتقاله يستند إلي تقارير ومذكرات حررتها الجهات الشرطية.
  • الأمر بالتوقيف يعد من إجراءات التحقيق فيلزم أن يصدر من سلطات التحقيق، أما الاعتقال الإداري فيعد تدبير إداري يصدر به امر .
  • الاعتقال الإداري ليس له مدة محددة، أما قرار التوقيف فتحدد الجهة التي تصدره مدته فور اتخاذه .
  • قرار الاعتقال الإداري يخضع للطعن أمام المحكمة الإدارية العليا فهو قرار إداري، أما التوقيف فيخضع للطعن بالطرق العادية أمام المحكمة العادية .

د- التوقيف والحبس في النظارة : مما لاشك فيه أن هناك اعتبارات عملية تستلزم منح موظفي الضبطية العدلية سلطة المساس بحرية الشخص في غير حالات الجرم المشهود أو صدور أمر من سلطة التحقيق، ويسمي هذا الإجراء في الأردن الحبس في النظارة، ويعد من الأعمال التي تمارسها الشرطة عندما تقوم بإجراءات الاستدلال، حتي تتجنب عرض وقائع علي سلطات التحقيق دون أدلة كافية، ويشترط في هذا الإجراء أن يكون محدد بوقت معين حماية للحريات الفردية، والحبس في النظارة ليس توقيفا وذلك لأنه يباشر بواسطة بواسطه موظفي الضابطة العدلية ويواجه شخصا لا متهما  .

وفي الحقيقة لا يفوتنا أن ننوه علي أن الحبس في النظارة وعلي الرغم من انه لا يعد من إجراءات التحقيق في الدعوي الجزائية، لكنه في واقعه يتضمن معني التوقيف لمدة  قصيرة وذلك حسب ما يحتاجه التحقيق الأولي  الذي تقوم به الشرطة.

ثانياً: التوقيف هو الوسيلة الوحيدة لتجنب الإخلال بالنظام العام الناجم عن الجريمة:-

ـ لقد أكد المشرع الأردني في المادة (114) من قانون أصول المحاكمات الجزائية على هذا الدفع لتبرير التوقيف، حيث نص فيها على تجنيب النظام العام أي خلل ناجم عن الجريمة، وأيضاً أخذ به في المادة (123) من ذات القانون والتي اشترطت لإطلاق سراح المتهم بجريمة جنائية أن لا يؤثر إطلاق سراحه على سير التحقيق والمحاكمة، وألا يخل أو يمس بالأمن العام في المجتمع.

ـ وبالنسبة لمصطلح النظام العام فإن المشرع الأردني لم يعرفه بل تركه للفقه والقضاء، ويعرفه بعض الفقهاء بأنه :(مجموعة القواعد التي تستهدف تحقيق مصلحة عامة، سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، تتعلق بنظام المجتمع الأعلى وتعلو على مصلحة الأفراد، فيجب على جميع الأفراد مراعاة هذه المصلحة وتحقيقها، ولا يجوز لهم أن يناهضوها باتفاقات فيما بينهم، حتى لو حققت هذه الاتفاقات لهم مصالح فردية فإن المصالح الفرية لا تقوم أما المصلحة العامة).

وبالنسبة للقضاء فلا يوجد في قرارات المحاكم الأردنية تعريفاً محدداً للنظام العام، وذلك لأن إعطاء مفهوم واضح جامع مانع للنظام العام أمر ليس باليسير فهناك حالة من عدم اليقين القانوني الذى يثيره هذا المصطلح،[9] فالنظام العام هو فكرة مرنة نسبية فضفاضة تستعصي على التحديد تختلف باختلاف الزمان، وتتغير بتغير المكان، والخوض في تعريفه أشبه بالمغامرة فوق رمال متحركة، ويلزم أن يترك الباب دائماً مفتوحاً أمام التطورات المستقبلية، فهو يتأثر بالظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأفكار السائدة في المجتمع، ولهذا السبب لم يضع المشرع الأردني تعريفاً للنظام العام .

ـ ويلاحظ أيضاً أن تعريف الإخلال الذى يصيب النظام العام ويبرر توقيف المشتكى عليه لتجنبه هو أيضا مفهوم غامض ويترك تقديره للقاضي حسب ظروف كل واقعة على حدة، ومع ذلك يجب تقييد سلطة القاضي بتحديد شروط هذ الإخلال وذلك بتحديد نوع الجرائم التي يمكن أن ترتكب وتؤدى لهذا الإخلال، مما يستلزم اشتراط توافر علاقة السببية بين الخلل الحاصل على النظام العام ووقوع الجريمة، بمعنى أن ينشأ الإخلال من وقوع الجريمة.

ـ وجدير بالذكر أن المشرع الأردني في المادة ( 114 ) لم يحدد نوع الجرائم التي يمكن معها تبرير توقيف المشتكى عليه، بل خول للمدعى العام سلطة واسعة لاستخدامه في الجنح والجنايات، مما قد يؤدى إلى إساءة استخدام هذا الدافع لتبرير التوقيف دون وجود سبب قانونى مشروع، وهو ما يصطدم مع قرينة البراءة.

ثالثاً: معايير تقدير وجود الإخلال بالنظام العام لتبرير التوقيف:-

ـ من المسلم به أن نصوص القانون الأردني جاءت خالية من تحديد معايير تقدير وجود الإخلال بالنظام العام، وهو ما لا يتفق مع اعتبار التوقيف إجراء استثنائي لا ينبغي أن يصطدم مع قرينة البراءة، ولا يوجد أمامنا سوى البحث في أحكام القضاء الأردني لعلنا نجد ضالتنا.

ـ المتأمل في أحكام القضاء الأردني يلاحظ أنه أخذ في العديد من أحكامه بمعيار خطورة الجريمة، لا سيما في جرائم العرض لتقدير خطر الإخلال بالنظام العام، وفى أحكام أخرى أخذ القاضي الأردني بمعيار ظروف ارتكاب الجريمة وجسامة الضرر الناتج عنها لتبرير توقيف المشتكى عليه، ولا يخفى عن الفطنة أن معيار السوابق القضائية، أو معيار السجل الإجرامي يعد هو الأكثر شيوعاً في تقدير وجود خطر الإخلال بالنظام العام، حيث أن وجود سوابق إجرامية عند المشتى عليه يعزز قناعة المدعى العام بأن إخلاء السبيل سيؤدى إلى الإخلال بالنظام العام وأمن المجتمع ومصلحته.

ولا يفوتنا أن ننوه على أن معيار خطورة الجريمة يعد من المعايير الهامة، والتي تزيد من احتمالية تعرض النظام العام للإخلال، ويساهم بشكل كبير في تكوين قناعة المدعى العام بضرورة التوقيف لتجنب الإخلال بالنظام العام.

ومما لاشك فيه أن خطورة الجريمة وردود فعل الجمهور على ارتكابها قد يؤدى إلى اضطراب وإخلال اجتماعي، ويقاس معيار خطورة الجريمة بالنظر إلى مقدار العقوبة للجرمية المرتكبة، فإخلاء سبيل المتهم بجريمة خطيرة كجريمة القتل مثلاً يلحق إخلالاً مستمراً خطيراً على النظام العام في المجتمع، ويرتب تداعيات أمنية خطيرة يصاحبه انفلات لا تحمد عواقبه ولا يمكن معها السيطرة مما يستلزم توقيف المشتكى عليه . [10]

ـ ولا يمكن أن نغفل حقيقة هامة وهى أن معيار خطورة الجريمة يعد غير كافي وحده لتقدير الإخلال بالنظام العام، وتسبب قرار التوقيف وذلك لأن خطورة الجريمة هي أمر نسبى وليس له معيار محدد، ولذلك يجب تدعيم معيار خطورة الجريمة بمعايير ووقائع أخرى لتبرير توقيف المشتكى عليه.

ـ أما بالنسبة لمعيار ظروف ارتكاب الجريمة فهو أيضاً معيار نسبى، يختلف من قضية إلى أخرى، وكذلك فإن استخدام معيار جسامة الضرر الناتج عن الجريمة المرتكبة لتقدير وجود الإخلال بالنظام العام، وتسبيب قرار التوقيف يمنح القاضي سلطة واسعة تختلف من حالة إلى أخرى، فقد يكون الشرر خطير يلحق بالدولة أو أمنها القومي كجرائم الإرهاب، وقد تلعب وسائل الإعلام دوراً كبيراً في التأثير على مشاعر الناس، وتأجيج الرأي العام، وإثارتهم من خلال وصف الجريمة وظروف ارتكابها.

رابعاً: التوقيف هو الوسيلة الوحيدة للاتقاء من تمدد الجريمة:-

ـ أن دوافع التوقيف التي تهدف إلى المحافظة على أمن المجتمع ومصلحته لا تقتصر على مجانية الإخلال بالنظام العام، بل تشمل أيضاُ الاتقاء من تمدد الجريمة وتجددها، وهو ما أكد عليه المشرع الأردني.

فالحكمة من دافع الاتقاء من تمدد الجريمة وتجددها لتبرير التوقيف هو حماية المجتمع إذا بقى حراً طليقاً، لذلك يلجأ للتوقيف لمنع عودته للسلوك الإجرامي، وللسيطرة على امتداد الجريمة.[11]

ومما لاشك فيه أنه ينبغي أن يوجد معايير محددة يستند لها القاضي لتقدير وجود خطر تمدد الجريمة وتكرار ارتكابها حتى لا يحدث تعسف باستخدام هذا الدافع لتبرير التوقيف، ولذا لابد أن يتوافر وقائع تتعلق بشخصية المشتكى عليه وسلوكه، ومدى خطورته لإثبات وجود هذا الخطر، عن طريق تشخيص شخصية المشتكى عليه وميله الإجرامي، وتصرفاته خلال فترة التحقيق، فاحتمالية تجدد ارتكاب الجريمة عند المجرم المعتاد أزيد من مجرم الصدفة، وكذلك إذا كان متمرداً وعنيفاً لفظياً وجسدياً خلال فترة التحقيق.

ويستطيع القاضي أن يستعين بأخصائيين نفسيين لتحليل ظروف وطريقة ارتكاب الجريمة، ومن سجله الإجرامي فاحتمالية تكرار ارتكاب الجريمة تكون كبيرة إذا كانت الجرائم الموجودة في سجله الإجرامي من نفس نوع الجرمية موضوع التحقيق.

وأخيراً فإن نوع الجريمة المرتكبة موضوع التحقيق وخطورتها تقوم بدور مهم في تقدير احتمالية تكرار ارتكابها، ومن الدوافع الأكثر استخداماً لتبرير التوقيف مما يؤكد على أهمية النظر لمصلحة المجتمع وأمنه.

خامساً: اجتهادات محكمة التمييز الأردنية فيما يتعلق بأمن المجتمع لتبرير التوقيف:-

1ـ قرار محكمة التمييز الأردنية رقم 754/97، مجلة نقابة المحاميين الأردنيين لسنة 1998 ص1033:-

حيث أكدت المحكمة في هذا القرار على (ضرورة وجود مبرر لإعادة توقيف المخلي سبيله بالكفالة).

2ـ قرار محكمة التمييز الأردنية –جزاء- قرار رقم 65/91، مجلة نقابة المحامين، العدد الثاني، 1996، ص288:- والتي قضت فيه بأنه :(لا يجوز توقيف المشتكى إذا كانت الجريمة المسند إليه عند ثبوتها تستوجب عقوبة الغرامة فقط).

ـ ومما ينبغي الإشارة إليه أن أحكام محكمة التمييز الأردنية في مجال تبرير التوقيف نادرة وقليلة.

سادساً: الخاتمة:

في نهاية هذا المقال لا يفوتني أن أشير إلى بعض من التوصيات الهامة، والتي أتمنى أن يأخذ بها المشرع الأردني عند تعديل أحكام التوقيف ومنها ما يلى:-

ـ أطالب المشرع الأردني بالفصل بين سلطتي الاتهام والتحقيق، لأن إسناد أمر التوقيف إلى النيابة العامة، يخل بضمان الحياد وبالتالي بفضل أن يعهد بسلطة إصدار التوقيف إلى هيئة قضائية مستقلة عن النيابة العامة

ـ كما ينبغي أن يضع المشرع الأردني حداً معيناً في العقوبة المقررة لجريمة الجنحة المعاقب عليها بالحبس، وذلك لضمان الحرية الشخصية، وعدم التوسع في مباشرة التوقيف.

ـ يلزم إدراج نص قانونى لإقرار حق التعويض لكل من تم توقيفه بغير سبب قانونى، أو تم توقيفه وحكمت المحكمة ببراءته.

ـ وأخيراً يلزم ممارسة رقابة قضائية فعالة على قرارات التوقيف، للتأكد من أنها تستند إلى دوافع أمن المجتمع ومصلحته، لتبرير التوقيف، والتأكد من التزامها بالشروط والمعايير السابقة.

[1] – أنظر مصطفى، حسن يوسف (2003)، الشرعية في الإجراءات الجزائية، عمان، الدار العلمية الدولية للنشر والتوزيع، ص122.

[2] – أنظر المرصفاوى حسن صادق (1954)، الحبس الاحتياطي وضمان حرية الفرد في التشريع المصري، رسالة دكتوراه، جامعة القاهرة، جمهورية مصر العربية، ص35.

[3] – أنظر سرور، أحمد فتحي (1981)، الوسيط في قانون الإجراءات الجنائية، ط2، ص777.

[4] – أنظر حسنى/ محمود نجيب، (1973)، علم العقاب، ط2، القاهرة، دار النهضة العربية، ص700.

[5] – أنظر الجواخدار، حسن (2011)، التحقيق الابتدائي في قانون أصول المحاكمات الجزائية :دراسة مقارنة، عمان، دار الثقافة للتوزيع والنشر، ص497.

[6] – أنظر الجواخدار، حسن، التحقيق الابتدائي في قانون أصول المحاكمات الجزائية، مرجع سابق، ص398.

[7] – أنظر الشروانة، عبدالرحمن ياسر، التوقيف والحبس الاحتياطي في القانونين الفلسطيني والأردني، ص55.

[8] أنظر السنهوري، عبدالرازق أحمد، الوسيط في شرح القانون المدني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الجزء الأول ١٩٦٤، ٣٩٩.

[9]  أنظر المصري، محمد وليد هاشم، محاولة رسم معالم النظام العام الدولي العربي بمفهوم القانون الدولي الخاص، مجلة الحقوق الكويتية، ٢٠٠٣،ص ١٤٣.

[10] نظر هايل، فرج، الحبس الاحتياطي وبدائله، دار المطبوعات الجامعة، ٢٠٠٧ ص ٧٤

الرئيسية
إختصاصات
مقالات
واتساب
إتصال
error: المحتوى محمي !!