حق الفرد في التقاضي أمام القضاء الدولي

ـ في مستهل حديثي عن حق الفرد في التقاضي أمام القضاء الدولي ينبغي أن أشير إلى أن الفكر القانوني الدولي يؤسس حق الفرد في التقاضي دولياً على حماية حقوق الإنسان، فلم تعد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في أي مكان في العالم من الشئون الداخلية للدولة، بل أصبحت مثار اهتمام المجتمع الدولي كله، كما أصبح الفرد حسب قول غالبية الفقه الدولي يتمتع بشخصية قانونية دولية رغم محدوديتها، فأصبح من الممكن أن يمثل كطرف في هذه الدعاوى، وهو ما يعتبر مؤشراً واضحاً للمكانة التي بات الفرد يحتلها في الفقه الدولي.

ولا يفوتنا في هذا الصدد  تجاهل الآليات التي تمكن الفرد من الدفاع عن حقه، من خلال إحالة قضاياه إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، والمحكمة التي أنشأت أيضاً لذات الغرض بموجب الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان للنظر في انتهاكات حقوق الإنسان، وكذلك الميثاق الأفريقي والأسيوي لحقوق الإنسان.

ولا يمكننا أيضاً في هذا المقال أن نغفل الدور الهام للقانون الدولي الجنائي والقانون الدولي الإنساني في حماية حقوق الإنسان من الانتهاكات، حيث ساهما في ظهور المحكمة الجنائية الدولية لملاحقة مرتكبي أخطر الجرائم ضد الإنسانية، وملاحقة المسؤولين عن ارتكابها، وإثبات مسؤوليتهم عنها ومقاضاتهم.

وترتيباً على ما تقدم سوف أحاول تسليط الضوء على حق الفرد في التقاضي أمام القضاء الدولي من خلال العناصر الآتية:-

أولاً: نشأة وتطور حق الفرد في التقاضي في القانون الدولي

ثانياً: مدى الاعتراف بحق الفرد في اللجوء إلى القضاء الدولي الجنائي

ثالثاً: حق اللجوء إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان

رابعاً: مشاركة الضحايا في إجراءات المحكمة الدولية الجنائية

خامساً: الخاتمة

أولاً: نشأة وتطور حق الفرد في التقاضي في القانون الدولي

  • نشأة الحق في التقاضي دولياً: مما لاشك فيه أن الفرد هو الغاية المثلى لأى تنظيم قانوني، بيد أن التنظيم القانوني لوضع الفرد يختلف في النظام الداخلي عن النظام الدولي، حيث أن الفرد يتمتع بالشخصية القانونية داخلياً ومن ثم له مُكنة اكتساب الحقوق والتحمل بالواجبات، لكن الأمر على الصعيد الدولي محل خلاف بين فقهاء القانون والقضاء.

فهناك جانب من الفقه التقليدي ينكر تمتع الفرد بالشخصية القانونية الدولية، وعدم وجود صفة له داخل النظام الدولي، ويري أن الدول وحدها هي فقط الشخص الأساسي للقانون الدولي، والفرد هو شخص القانون الداخلي، وفي المقابل هناك عدد لا يستهان به من فقهاء القانون الدولي يرون أن الفرد هو المخاطب الحقيقي بأحكام القانون الدولي.

  • ويتجه جانب ثالث إلى القول بأن الفرد كثيراً ما يكون موضوعاً للاهتمام المباشر من جانب القانون الدولي، بل وقد يخاطب هذا القانون خطاباً مباشراً في حالات نادرة تصبح له فيها شخصية قانونية فعلية بالمعنى  الصحيح، ولكن هذه الحالات الاستثنائية لا تؤثر في الأصل العام وهو أن الفرد كقاعدة عامة ليس من أشخاص القانون الدولي العام، وإن كان موضوعاً لاهتمامه في كثير من الأحيان.([1])
  • وفى الحقيقة أن المشكلة التي وقع فيها جميع الاتجاهات السابقة أنها نظرت للفرد برؤية واحدة وبنظرة ضيقة، وذلك على الرغم من أن الحياة الدولية والروابط الدولية  قد تطورت في الآونة الأخيرة تطوراً سريعاً، وترتب على ذلك أن أصبح الفرد هو الشخص الرئيسي الأول للقانون الدولي الجنائي وبات مخاطباً بأحكامه فهو مسئول مسئولية مباشرة عن جرائم الإبادة، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية وغيرها.
  • ويؤكد وجهة النظر هذه أن محكمة العدل الدولية قررت أثناء نظرها الرأي القانوني لشخصية المنظمة الدولية، ذهبت إلى أن الأشخاص القانونية في أي نظام قانوني ليسوا بالضرورة متماثلين في طبيعتهم أو في حقوقهم، وأن تطور الحياة الدولية وازدهارها أدى إلى وجود أشخاص أخرى بجانب الدول.([2])
  • ولا يخفى عن الفطنة أن نشأة الحماية الدولية لحقوق الإنسان كان بسبب الصراع بين الفرد والدولة، فهو الطرف الضعيف ولذا يجب ألا يترك فريسة لظلم الدولة، مما أدى إلى الاعتراف للفرد بالشخصية الدولية باعتباره مخاطباً رسمياً من قبل القانون الدولي، فأصبح بإمكانه اللجوء إلى المحاكم الدولية في بعض الحالات للمطالبة بحقوقه التي انتهكت من قبل الدولة.
  • وجدير بالذكر أن ميثاق الأمم المتحدة تناول المركز القانوني للفرد، وأيضاً الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذى جاء في المادة (10) منه أن :(لكل إنسان على قدم المساواة، … الحق في أن ينظر قضيته أمام محكمة مستقلة، ونزيهة، نظراً منصفاً وعلنيا للفصل في حقوقه والتزاماته، وفى أي تهمه جزائية توجه إليه).
  • ولا يفوتنا أن ننوه في هذا الصدد على أن الاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية سنة 1966 هي الأخرى نصت في المادة (14) على أن :(الناس جميعاً سواسية أمام القضاء، ومن حق كل فرد لدى الفصل في أي دعوى مدنية أن تكون قضيته محل نظر منصف).
  • ولقد ظهرت الحماية القضائية لحقوق الإنسان المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية من خلال مؤتمر فيينا العالمي الثاني لحقوق الإنسان، حيث تقرر إنشاء وظيفة (مفوض سام) لحقوق الإنسان، وتم مناقشة فكرة إنشاء محكمة دولية لحقوق الإنسان، لكن هذه الفكرة لم تر النور بسبب المعارضة الشديدة من جانب العديد من الدول.([3])
  • ويلاحظ أن أول تكريس لحق الفرد في التقاضي أمام الهيئات القضائية الدولية بدأ مع نشأة المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان كأهم هيئة قضائية دولية، حيث أنه بموجب دخول البروتوكول الحادي عشر حير النفاذ أصبحت المحكمة مجبرة على تلقى دعاوى الأفراد.([4])
  • ولقد خولت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان هذا الحق لأى شخص لم ينصفه قضاؤه الوطني مهما كان الحق المنتهك بسيطاً، فحق التقاضي مكفول لديها بموجب القانون الأساسي للمحكمة، حيث جاء فيه نص المادة (34) والتي ورد فيها أنه :(يمكن لأى شخص طبيعي أو منظمة غير حكومية، أو مجموعة من الأشخاص تقديم التماس أو عريضة موضوع الادعاء، بأن الدولة الطرف أو أكثر تنتهك أحكام الاتفاقية).
  • مبررات عالمية الاعتراف بحق التقاضي دولياً: مما لاشك فيه أن المنطق القانوني يحتم على من لم ينصف من قاضية الطبيعي الوطني أن يلجأ لمن ينصفه دولياً، باعتباره إنساناً له حقوق عالمية لابد من تمكينه من الدفاع عنها، وهو ما يعرف بمبدأ عالمية الاختصاص القضائي، وحق اللجوء إلى القضاء الدولي باعتباره جهة استئناف دولية عند عدم تمتع المتقاضي بالمحاكمة الوطنية العادلة، وذلك عندما يكون القاضي الوطني المختص بنظر الدعوى قاضى استثنائي، غير مستقل في حكمه، لا يمثل عنوان الحقيقة، بل مجرد موظف تال وقارئ لحكم الإدانة، ويصطبغ حكمه بالصبغة سياسية، وهو بذلك يخالف صراحة المعايير القضائية الدولية.([5])
  • ولا جدال في أن كفالة حق الأفراد في التقاضي دولياً تبعث في نفوسهم السكينة والرضا والإيمان بالعدل، وحرمانهم منه ينعكس عليهم بصورة سلبية ويبعث بداخلهم الإحساس بالظلم والقلق والاستياء.
  • وهكذا يتضح أن حق التقاضي دولياً يتأسس على فكرة القانون الطبيعي، فحق الإنسان في اللجوء لقاضيه الطبيعي يعد من الحقوق الطبيعية اللصيقة بشخصية الإنسان، وهو أسبق من المواثيق الدولية والإقليمية والدساتير والدولة نفسها، فهو حق يرتقى إلى الحقوق الطبيعية والدولية، كما أنه يتأسس على الحماية الدولية لحقوق الإنسان، حيث لم يعد الفرد موضوع القانون الداخلي فقط بل والقانون الدولي أيضاً.

ثانياً: مدى الاعتراف بحق الفرد في اللجوء إلى القضاء الدولي الجنائي

لقد اختلف الفقه الدولي حول مدي أهلية الفرد في اللجوء إلى القضاء الدولي إلى اتجاهين رئيسين، أولهما: يتمسك بالمبدأ التقليدي والذى يستند إلى عدم توافر الشخصية القانونية الدولية للفرد، وبالتالي عدم أهليته للجوء إلى القضاء الدولي بهدف حماية حقوقه، وثانيهما يعترف للفرد بالحق في اللجوء الدولي لحماية حقوقه.([6])

  • وفى الحقيقة فإن التكييف السليم لمركز الفرد في القانون الدولي، يرتكز علي أن نقر له بذاتية دولية وليس بشخصية قانونية، فينبغي أن يعترف له بحقوق دولية على الصعيد الدولي، وتأكيداً لذلك نصت صراحة اتفاقيات جنيف الأربعة والبروتوكول الأول منها، على تمكين الأفراد من تبليغ شكواهم بتوسيع اختصاص محاكمها إلى سماع أي شكوى مهما كانت جنسية مرتكبها، وقد تدعم هذا الحق دولياً بإقرار بعض الدول الراعية لحقوق الإنسان حق محاكمة مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية خارج إقليمها.

وجدير بالذكر أن هذه المساعي المبذولة لإقرار سيادة القانون الدولي الجنائي على الجرائم الدولية الماسة بالإنسانية، قد أسفرت عن اتفاقية روما 1998 والتي أنشأت المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة الأفراد المسؤولين عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، مهما كان مركزهم القانوني في الدولة، ويلاحظ أن المحكمة الجنائية الدولية لا تبدأ ممارسة اختصاصها، إلا بعد إخفاق أو عدم قدرة الدولة أو تقاعسها عن مقاضاة المسؤولين عن الجرائم.

ثالثاً: حق اللجوء إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان

جدير بالإشارة أنه بموجب التعديل الجديد الذى أجرته الدول الأطراف في الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والحريات الأساسية بتاريخ 1994، والذى أسفر عن البروتوكول الحادي عشر، والذى بدخوله حيز النفاذ تم إلغاء اللجنة الأوروبية لحقوق الإنسان، والاكتفاء بجهاز رقابة قضائي واحد، فأصبح الفرد بتمتع بحق اللجوء مباشرة إلى المحكمة.([7])

وترتيباً على ذلك أصبح من حق كل شخص مقيم على أراضيها، بغض النظر عن جنسيته سواء قدمت الدعوى ضد دولته أم ضد أي دولة أخرى من الدول الأطراف، كما يمكن للاجئ وعديم الجنسية، أيضاً الانتفاع بهذا الحق.

  • ويلاحظ أن المادة (35) من الاتفاقية تشترط استنفاذ طرق الطعن الداخلي لقبول الدعوى احتراما لسيادة الدولة في معالجة قضائها للقضايا الداخلية، فإذا نشأ عن هذه المعالجة الداخلية انتهاك لحق ما من حقوق الإنسان، فللضحية الحق في تدويل قضيته، وذلك عن طريق دعوى دولية يرفعها أمام المحكمة الأوروبية بشأن أي إخلال بالالتزامات المنصوص عليها في الاتفاقية من قبل دول أخرى أعضاء فيها، ووفقاً للبروتوكول رقم (11) فإن المواد (29) إلى (35) أكدت على أن تنظر لجنة مكونة من ثلاثة قضاة في العريضة المقدمة للبت في قبول الدعوى شكلاً، وفى حال عدم قبول الدعوى لابد أن يكون ذلك بالإجماع.

وإذا تم قبول الدعوى شكلاً تعهد لإحدى الغرف المكونة من سبعة قضاة مهمة التحقيق، وذلك للتأكد من الوقائع واقتراح الحل الودي في محاولة لتسويتها عن طريق التراضي طبقاً للمادة (39) وفى حال نجاح هذا المسعى تشطب الدعوى من سجل الدعاوى، أما في حالة الفشل تصدر قرار بإحالة الدعوى للنظر فيها طبقاً للقانون.([8])

وتملك الغرفة المحال إليها الدعوى سلطات واسعة في التحقيق، فيمكنها أن تطلب أدلة مكتوبة أو سماع شهود أو تقديم خبرة، ولا يخفى عن الفطنة أن هناك مجموعة من الضوابط القضائية القانونية والإجرائية تتقيد بها المحكمة عند مباشرة الدعوى القضائية الدولية وهى:-

  • يجب على المتقاضين استنفاد طرق الطعن المتاحة داخلياً.
  • يجب تقديم الالتماس في غضون 3 أشهر من تاريخ صدور القرار النهائي عن طريق الطعن الداخلي.
  • أن يكون الشاكي معلوماً وذلك للحيلولة دون إساءة استعمال الحق في التقاضي، وأن تكون شكواه مسببه، ومتفقة مع أحكام الاتفاقية وبروتوكولاتها الملحقة بها.
  • وأخيراً لا يجب أن يكون الشاكي محبوساً أو موقوفاً.

وإذا قررت المحكمة أن هناك انتهاك لأحكام الاتفاقية، فإنها تحكم بتعويض مالي عن الضرر الذى أصاب الشاكي وذلك عن الضرر الأدبي والضرر المادي، كما تلزم الدولة المدعى عليها بالمصاريف القضائية لمسؤوليتها عن إخلالها بالتزاماتها.([9])

  • ولقد سارت الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان على نفس درب المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، حيث نصت المادة (44) منها على أنه : (يمكن لأى شخص أو جماعة أو هيئة غير حكومية معترف بها في دولة، أو أكثر من الدول الأعضاء في المنظمة، أن ترفع إلى اللجنة عرائض تتضمن شجباً أو شكاوى ضد أي انتهاك لهذه الاتفاقية من قبل دولة طرف، متى استنفذت طرق الطعن الداخلية، أما بالنسبة للمحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان فقد اشترطت أن يكون مقدم الشكوى معروفا، لكن لا يشترط أن تقدم الشكوى من طرف الشخص الذى انتهكت حقوقه.([10])

رابعاً: مشاركة الضحايا في إجراءات المحكمة الدولية الجنائية

تنص المادة (85) من لائحة الإجراءات والإثبات للمحكمة الدولية الجنائية على أنه 🙁 أ- يدل لفظ الضحايا على الأشخاص الطبيعيين المتضررين بفعل ارتكاب أي جريمة تدخل في اختصاص المحكمة. ب- يجوز أن يشمل لفظ الضحايا المنظمات أو المؤسسات التي تتعرض لضرر مباشر في أي من ممتلكاتها المكرسة للدين أو التعليم أو الفن أو العلم أو لأغراض الخيرية والمعالم الأثرية والمستشفيات وغيرها من الأماكن، والأشياء المخصصة لأغراض إنسانية).

  • ويستفاد من هذا النص اتساع مفهوم الضحية ليستوعب عدد كبير من الضحايا فتشمل المجنى عليه مباشرة، فضلاً عن أسرته، وكذلك الأشخاص المعنوية المعتبرة كضحية جراء ما أصابها من أضرار في الممتلكات والآثار، كما يذهب البعض –وبحق- أن الضحية ترتبط وجوداً وعدماً بالضرر الحادث، سواء كان ضرر مباشر أو غير مباشر احتراماً لحقوق الإنسان وحرياته.([11])

ووفقاً لنص المادة (68) من النظام الأساسي للمحكمة الدولية الجنائية فإنه يمكن أن تسمح المحكمة للمجنى عليهم عندما تتأثر مصالحهم الشخصية، بعرض آرائهم وشواغلهم، والنظر في أي مرحلة من مراحل الإجراءات التي تراها المحكمة مناسبة، ويجوز للممثلين القانونيين للمجنى عليهم عرض هذه الآراء والشواغل،  وينبغي الإشارة إلى أن من تتوافر فيه وصف الضحية هو فقط من يتقدم بطلب إلى غرفة ما قبل المحاكمة أو إلى المسجل، محدداً فيه عزمه على الادعاء أو التعويض بما في ذلك أدلته على الأضرار التي لحقت به، ونوع الجريمة التي كانت سبباً في إضراره، وللدائرة السلطة التقديرية في قبول أو رفض مركزه القانوني، اعتماداً على توافر الهوية الملائمة للضحية، وكذلك أن تحدد ما إذا كان الضحية قد عانى أضرار مادية أو نفسية أو معنوية.

  • وتأكيد حق الضحية في الاشتراك في الإجراءات بدءاً من مرحلة التحقيقات بالقاعدة (91) من لائحة الإجراءات والإثبات، والتي جاء فيها أنه: (يجوز للممثل القانوني للضحية أن يحضر الإجراءات وأن يشترك فيها، ويشمل هذا الاشتراك في الجلسات، ما لم تر الدائرة المعنية بسبب ملابسات الحالة أن يقتصر تدخل الممثل على الملاحظات المكتوبة أو البيانات، ويسمح للمدعى العام والدفاع بالرد على أي ملاحظات شفوية أو خطية للممثل القانوني للضحايا).

ولا يخفى عن الفطنة أن النظام الأساسي للمحكمة الدولية الجنائية، قد أمد الضحايا في العديد من النصوص بدور رئيسي أمام دوائر المحكمة الدولية الجنائية، خاصة أمام الدائرة التمهيدية والتي يمارس الضحية أمامها نشاطاً إيجابياً لتوضيح وجهة نظره، وعرض دفوعه ضد المتهم، حيث يقدم للدائرة المعلومات الكافية من وجهة نظره خاصة في شأن الأضرار التي أصابته، مستهدفاً إقناع عقيدة الدائرة للحصول على التعويض.([12])

  • ولا يفوتنا أن ننوه على أن حماية الضحية في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية له أهمية قصوى، تفوق بكثير تلك الحماية الممنوحة في الأنظمة الداخلية، حيث تؤكد المادة (68) في الفقرة الثانية من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أنه استثناء من مبدأ علانية الجلسات، لدوائر المحكمة أن تقوم بحماية المجنى عليهم والشهود أو المتهم بإجراء أي جزء من المحاكمة في جلسات سرية، أو السماح بتقديم الأدلة بوسائل الكترونية حديثة أو بوسائل خاصة أخرى.

ولقد أكدت القاعدة (87) من لائحة المحكمة على أنه يجوز لدائرة المحكمة بناء على طلب من المدعى العام أو الدفاع أو احد الشهود أو الضحية أو ممثلة القانوني إن وجد، أو من تلقاء نفسه، وبعد التشاور مع وحدة الضحايا أو الشاهد أو أي شخص أخر معرض للخطر، نتيجة شهادة أدلى بها شاهد، كما ورد بالقاعدة (92) من لائحة المحكمة أن تسرى قاعدة إخطار الضحايا وممثليهم القانونيين على جميع الإجراءات المضطلع بها أمام المحكمة.
– ويستفاد من نصوص النظام والقواعد سالفة البيان أن الضحية دوره هام وفعال في تقديم الأدلة والمعلومات، وأن له مصلحة أكيدة لأن يكون عنصراً إيجابياً أثناء جلسات المحكمة، ولئن تضمنت بعض نصوص النظام ما يعتبر الضحية شاهداً بيد أن قضاء المحكمة الدولية الجنائية قد رسم في العديد من أحكامه الصورة الحقيقية للضحية أثناء المحاكمة، تلك الصورة التي تجعل الوصف القانوني له كمشارك في الإجراءات، ويتعدى دور الشاهد في الدعوى الجنائية إلى المشاركة فيها، حيث تتأثر مصالحه الشخصية بها.

  • وكما ورد في نص المادة (75) من النظام الأساسي أن المحكمة هي التي تضع مبادئ جير الأضرار التي تلحق بالمجنى عليهم أو فيما يخصهم، ورد الحقوق والتعويض، وهى التي تحدد نطاق أي ضرر أو خسارة أو أذى يلحق بالمجنى عليهم، فلها سلطة تقديرية بأن تحكم بالتعويض الملائم حسبما تنطق به أوراق الدعوى.

وترتيباً على ذلك فإن الفقرة الثانية من المادة (75) من النظام الأساسي تنص على أنه :(للمحكمة أن تصدر أمراً مباشراً ضد شخص مدان تحدد فيه أشكالاً ملائمة من أشكال جبر أضرار المجنى عليهم أو فيما يخصهم،… والمحكمة أن تأمر حيثما كان مناسباً بتنفيذ قرار الجبر عن طريق الصندوق الاستئماني المنصوص عليه في المادة (79)).

  • وجدير بالذكر أن الصندوق الاستئماني قد نشأ بقرار من جمعية الدول الأطراف لصالح المجنى عليهم وأسرهم، وللمحكمة أن تأمر بتحويل المال وغيره من الممتلكات المحصلة في صورة غرامات، وكذلك المال والممتلكات المصادرة إلى الصندوق ويدار الصندوق وفقاً للمعايير التي تحددها جمعية الدول الأطراف.

والقاعدة أن جبر الأضرار من القواعد الشكلية التي تستلزم أن يتقدم الضحايا بطلباتهم خطياً لحصولهم على تعويض دون الاكتفاء بحضور الجلسات الإجرائية كشهود ضد المتهمين، ولذا فالإفصاح عن إرادتهم بطلب التعويض شرط إجرائي لاستجابة المحكمة لبحث هذه الطلبات، كما يجب أن تودع تلك الطلبات لدى مسجل المحكمة، متضمنة هوية مقدم الطلب وعنوانه ووصف للإصابة أو الخسارة أو الضرر، مع بيان مكان وتاريخ الحادث وتحديد هوية المسئول عنها قدر الإمكان، وكم التعويض المطلوب، فضلاً عن أي مستندات مؤيدة لموضوع طلبه بما فيها أسماء الشهود وعناوينهم.([13])

وتطلب المحكمة إلى المسجل في بداية المحكمة أن يخطر بالطلب الشخص المذكور فيه، وأن يخطر قدر المستطاع كل من يهمهم الأمر من أشخاص ودول، ويودع الأخطار قلم المحكمة، وللمحكمة أن تقدر جبر الأضرار على أساس فردي أو جماعي أو بهما معاً إن ارتأت ذلك، مع الأخذ في الاعتبار نطاق ومدى أي ضرر أو خسارة أو إصابة، وأن تأمر بأن يودع لدى الصندوق الاستئماني مبلغ الجبر المحكوم به ضد الشخص المدان، عندما يستحيل أو يتعذر إصدار حكم فردى يجبر الضرر مباشرة لفائدة كل ضحية، ويكون مبلغ جبر الضرر المحكوم به والمودع لدى الصندوق الاستئماني منفصلا عن كل موارد الصندوق الأخرى، ويقدم إلى كل ضحية بأسرع وقت ممكن.([14])

خامساً: الخاتمة

ولا يفوتنا الإشارة في نهاية هذا المقال إلى أن وجود محاكم دولية لحماية حقوق الإنسان، تمكن الفرد من اللجوء إليها وتوجيه الاتهام إلى دولته في حالة انتهاكها لحقوقه يسهم في وجود نظام اجتماعي مستقر، بيد أن تفعيل هذا الحق وتعميمه يتوقف على مصادقة الدول على المعاهدات والاتفاقيات الدولية، التي تسمح للفرد باللجوء إلى المحاكم الدولية، أما إذا لم تكن الدولة طرفاً في الاتفاقية أو المعاهدة فلن يستطيع الفرد أن يحتج عليها أمام القضاء الدولي، مما يجعل القضاء الإقليمي أيسر على الأفراد وأكثر فعالية.

[1]– أنظر د/ سامى عبدالحميد، أصول القانون الدولي العام، ج1، الجماعة الدولية، ط2، مؤسسة الثقافة الجامعية، الإسكندرية، 1980، ص298.

[2]– أنظر د/ مصطفى أحمد فؤاد، العلاقات الدولية في منظور المنظمات الدولية، مكتبة الجامعة الجديدة، طنطا، 2010، ص115.

[3]– أنظر أ.د/ عليان بوزيان، تفعيل حق الفرد في التقاضي أمام القضاء الدولي لحقوق الإنسان، دراسة تأصيلية مقارنة، مجلة الحقوق، المجلد (12)، العدد (1)، ص125.

[4]– أنظر د/ محمد خليل الموسى، الوظيفة القضائية للمنظمات الدولية، دار وائل للنشر، الطبعة الأولى 2003، ص155، ص156.

[5]– أنظر أ.د/ عليان بوزيان، تفعيل حق الفرد في التقاضي أمام القضاء الدولي لحقوق الإنسان، مرجع سابق، ص28.

[6]– أنظر أ.د/ عليان بوزيان، تفعيل حق الفرد في التقاضي أمام القضاء الدولي لحقوق الإنسان، مرجع سابق، ص139.

[7]– أنظر د/ نبيل مصطفى إبراهيم خليل: آليات الحماية الدولية لحقوق الإنسان، ص73

[8]– أنظر د/ مصطفى عبدالغفار، ضمانات حقوق الإنسان على المستوى الإقليمي، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، مصر، 2003، ص288.

[9]– أنظر أ.د/ عليان بوزيان، تفعيل حق الفرد في التقاضي أمام القضاء الدولي لحقوق الإنسان، مرجع سابق، ص156.

[10]– أنظر د/ قادري عبدالعزيز: حقوق الإنسان في القانون الدولي والعلاقات الدولية المحتويات والآليات، دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر 2002، ص182.

[11]– أنظر د/ إبراهيم خليفة: حق ضحايا الجرائم الدولية في التعويض، دار الجامعة الجديدة، الإسكندرية، 2010، ص43.

[12]– أنظر د/ مصطفى أحمد فؤاد، أحكام الإجراءات الجنائية في القانون الدولي العام، مكتبة الجامعة الجديدة، 2021، ص395.

[13]– أنظر د/ إبراهيم خليفة: حق ضحايا الجرائم الدولية في التعويض، دار الجامعة الجديدة، الإسكندرية، 2010، ص79.

[14]– أنظر د/مصطفى أحمد فؤاد، أحكام الإجراءات الجنائية في القانون الدولي العام، مكتبة الجامعة الجديدة، طنطا، ص42.

الرئيسية
إختصاصات
مقالات
واتساب
إتصال
error: المحتوى محمي !!