الجواز الشرعي ينافي الضمان

الضمان هو الوسيلة التي تحافظ على حقوق الناس وترفع الضرر عمن وقع عليه، إلا أن ذلك منوط بأن يكون هناك ثمة خطأ ترتب عليه حدوث هذا الضرر، ذلك أنه قد يحدث ضرر ومع ذلك ينتفي الضمان كما لو كان الفعل المرتكب جائزاً شرعاً، وهذا مؤدى قاعدة “الجواز الشرعي يُنافي الضمان”، حيث لا يمكن أن يؤاخذ من يستعمل حقه استعمالاً مشروعاً حتى ولو ترتب على ذلك إلحاق ضرراً بالغير.

أولا: ماهية قاعدة الجواز الشرعي يُنافي الضمان:

ثانيا : مشروعية القاعدة:

ثالثا : مفهوم القاعدة من الناحية القانونية:

رابعا: شروط إعمال القاعدة:

خامسا: تطبيقات القاعدة.

سادسا : فروع القاعدة.

سابعا: الاستثناءات الواقعة على القاعدة.

أولا: ماهية قاعدة الجواز الشرعي يُنافي الضمان:

الجواز الشرعي ينافي الضمان، هي قاعدة فقهية أخذ بها القانون ،  ومعناها أنه إذا تصرف الشخص في شيء أقره الشرع عليه فحدث إتلاف فإن الإتلاف لا يضمن، حيث أن الحاصل من الشيء إذا كان منفصلا عنه غير متولد منه كسكنى الدار وأجرة الدابة، أو السيارة فإنه يستحق لمن يدخل في ضمانه، فالذي يحصل على المنافع، هو الذي يتحمل المخاطر، فيكون خراجه أي ما يعني منافعه وضمانه عليه وحده، ومنه تكون له منافعه وعليه ضمانه، ومنه فإن الكسب والأجرة على الشيء غير المتولدة يطيب لمن كان عليه الضمان، حيث لو رد المشتري المبيع بعد قبضه بخيار العيب وكان قد استعمله مده فلا يلزم أجرته، لأنه لو كان قد تلف في يده قبل الرد لكان يتلف عليه من ماله، وكذلك لو أجره فإن الأجرة تطيب له.

يأخذ فعل المكلف – وفقاً للراجح عند الجمهور – خمسة أحكام شرعية وهي التحريم والإباحة والكراهية والندب والوجوب[1]، ولقد رتب الشارع الحنيف آثار على هذه الأحكام منها ما يكون دنيوي ومنها ما يكون أُخروي.

ومن الأثار الدنيوية المترتبة على هذه الأحكام أن من أتى فعلاً محرماً سبب به ضرراً للغير فعليه الضمان، أما إذا كان الفعل مُباح وترتب على إتيانه ضرراً بالغير فلا يكون هناك ضمان على الفاعل، حيث إن استعمال المباح لا يوجب الضمان طالما كان في حدود الضوابط الشرعية، وهذا ما ينطبق – أيضاً – على إتيان الفعل الواجب.

فالضمان لا يترتب إلا على الفعل الناشئ عن تعدي، والتعدي هو أن يفعل الفاعل ما منعه الشارع منه، فمن فعل ما أذن له به الشارع أو أمره به ولم يكن متعدياً، فلا يتوجه إلزامه بالتعويض[2].

وهذا ما يقرره المشرع الأردني بموجب نص المادة (61) من القانون المدني والتي نصت على أن (الجواز الشرعي ينافي الضمان فمن استعمل حقه استعمالا مشروعا لا يضمن ما ينشأ عن ذلك من ضرر).

ومن ثم نخلص مما سبق إلى أن التصرف الذي يكون مأذوناً به أو مأموراً به من الشارع – أو ولي الأمر – إذا ترتب عليه ضرر فلا يكون هناك ضمان على الفاعل ومن ثم فلا يجوز مطالبته بالتعويض.

وهذا ما تؤكده محكمة التمييز الأردنية

في حكمها رقم 6034 لسنة 2020 – محكمة التمييز بصفتها الحقوقية الصادر بتاريخ 2021-02-02 والتي قضت فيه بأن: (ومن الرجوع إلى المواد ( 61 و66 و1027) من القانون المدني والواجبة التطبيق على هذه الدعوى نجد أن المادة (61) نصت على قاعدة كلية مفادها أن الجواز الشرعي ينافي الضمان فمن استعمل حقه استعمالاً مشروعاً لا يضمن ما ينشأ عن ذلك من ضرر).

ثانيا : مشروعية القاعدة:

وردت مشروعية القاعدة في كل من الشريعة والتشريع الأردني بشكل واضح، حيث وردت في الشريعة في كل من القرآن والسنة، ففي القرآن الكريم والسنة النبوية، فمن الآيات القرآنية: قوله تعالى (وإن عوقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) (الشورى:40) وقوله تعالى (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)(194:البقرة)، وإن وجه الدلالة من هذه الآيات في الآية الثانية قوله تعالى (فمن اعتدى) فالاعتداء هنا بمعنى التجاوز، وكذا (عوقبتم) فان الآية توجب في ضمان العدوان على المال المثلي ما دام قائما، فإذا تعذر ذلك ضمن قيمته، والقيمي يضمن بقيمته ابتداء لتعذر المماثلة، وان الآيات السابقة الذكر عامة في ضمان جميع الأشياء.

أما من السنة النبوية فعن أنس قال : أهدت بعض أزواج النبي صل الله عليه وسلم إلى النبي طعاما في قصعة، فضربت عائشة القصعة بيدها، فألت ما بيدها، فقال النبي صل الله عليه وسلم (طعام بطعام، وإناء بإناء)، ووجه الدلالة من الحديث أن الضمان مشروع عند إتلاف مال غيره فالمثلي يضمن متلفة مثله، وقيمته إن عدم المثل، ولا خلاف بين العلماء في تضمين المثل في الأطعمة والمشروبات كذلك.

1- الدليل من القرآن الكريم:

أن الله – عز وجل – لا يُحب المُعتدين، ولذلك فلقد أجاز لمن وقع عليه الاعتداء أن يدفعه بشتى الطرق حتى ولو ترتب على ذلك إلحاق ضرراً بالمعتدي، شريطة وجود ثمة تناسب بين فعل الاعتداء ودفع الاعتداء، وهذا ما قرره جل وعلى بقوله الكريم ” فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ[4]“، وكذلك قوله جل وعلى ” وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ[5]

فُيستدل للقاعدة بمفهوم المخالفة لوجه الدلالة من الآيات الكريمة، والمتضمن أن من يستعمل حقه ويمارسه على الوجه المأذون به شرعاً لا يكون بذلك معتدياً أو مسيئاً وبذلك ينتفي الضمان[6].

2- الدليل من السنة النبوية:

روي عن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام أنه (جاء رجل إلى رسول الله صل الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه مالك. قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله. قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد. قال: أرأيت إن قتلته: قال فهو في النار[7]).

ومن ثم يتبين من الحديث النبوي الشريف أن من المعتدي على مال غيره إن تم قتله فلا ضمان له ولا دية على القاتل، ويؤكد هذا المعنى ما الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري عن رسول الله أنه قال: (من قُتل دون ماله فهو شهيد).

وهذا يدل على أن من يستعمل الحق الذي أباحه له الشارع فلا ضمان عليه طالما كان استعماله لهذا الحق في حدود الضوابط المرسومة له.

ويؤكد ذات المعنى ما روى عن أنس أنه قال أهدت بعض أزواج النبي إليه طعاماً في قصعة، فضربت عائشة القصعة بيدها، فألقت ما فيها، فقال النبي (طعام بطعام، وإناء بإناء[8]).

ثالثا : مفهوم القاعدة من الناحية القانونية:

كما ذكرنا، فلقد كرس المشرع الأردني هذه القاعدة بموجب نص المادة (61) من القانون المدني الأردني وبين فيها أن من استعمل حقه بصورة مشروعة فلا ضمان عليه وحتى وإن ألحق بالغير ضرراً.

إلا أن المشرع الأردني قد اشترط ألا ينطوي استعمال الحق على إساءة لحق الغير، حيث إن ذلك يوجب الضمان على المسيء، ولقد بين المشرع معايير الإساءة بموجب نص المادة (66) من القانون المدني والتي نصت على أن: (يجب الضمان على من استعمل حقه استعمالا غير مشروع، ويكون استعمال الحق غير مشروع:

  • إذا توفر قصد التعدي.
  • إذا كانت المصلحة المرجوة من الفعل غير مشروعة.
  • إذا كانت المنفعة منه لا تتناسب مع ما يصيب الغير من الضر .
  • إذا تجاوز ما جرى عليه العرف والعادة).

فمما سبق يتضح أن مفهوم القاعدة في التشريع الأردني يتطابق مع مفهومها في الشريعة الإسلامية، فلقد بين المشرع الأردني أن الجواز غير مطلق، بل أنه مقيد بعدم التعسف فيه.

صور التعسف في استعمال الحق:

ويتحقق التعسف في استعمال الحق إذا كانت نية الشخص متجهة إلى مجرد الإضرار بالغير، ومن ثم فإن المعيار المتبع في هذا الصدد هو معيار شخصي بحيث يجب البحث عن نية الفاعل وبيان ما إذا كان يستعمل حقه استعمالاً مشروعاً باغياً تحقيق مصلحته، أم أنه لم يبغ سوى البغي على مصلحة الغير.

وكذلك يتحقق التعسف في استعمال الحق إذا كان استعماله يرمي إلى تحقيق مصلحة غير مشروعة، ولا تكون المصلحة غير مشروعة إذ كان تحقيقها يخالف حكماً من أحكام القانون فحسب، إنما يتصل بها هذا الوصف أيضاً إذا كان تحقيقها يتعارض مع النظام العام والآداب[9].

ويتحقق التعسف – أيضاً – في حالة ابتغاء تحقيق مصلحة شخصية لا تتناسب البتة مع الضرر الذي سيلحق بالغير، وذلك كمن يستأجر داراً ثم يترك الماء في جدرانها وقتاً طويلاً، ومن ثم يعتبر متعسفاً كل من تجاوز ما جرى عليه العرف والعادة).

وهذا ما تؤكده محكمة التمييز الأردنية

في حكمها رقم 6307 لسنة 2020 – محكمة التمييز بصفتها الحقوقية الصادر بتاريخ 2021-01-24 والتي قضت فيه بأن: (وفي ذلك نجد أنه من المقرر بنص المادة 61 من القانون المدني أن الجواز الشرعي ينافي الضمان فمن استعمل حقه استعمالاً مشروعاً لا يضمن ما ينشأ عن ذلك من ضرر وأنه بموجب المادتين 65 و66 من القانون ذاته فإن الضرر العام يدفع بالضرر الخاص والأشد بالأخف وأن الضمان يجب على من استعمل حقه استعمالاً غير مشروع ويكون استعمال الحق غير مشروع:

  • إذا توافر قصد التعدي.
  • إذا كانت المصلحة المرجوة من الفعل غير مشروعة .
  • إذا كانت المنفعة معه لا تتناسب مع ما يصيب الغير من ضرر.
  • إذا تجاوز ما جرى عليه العرف والعادة.

ولما كان ذلك وكانت وزارة الأشغال العامة والإسكان قد استعملت حقها استعمالا مشروعاً بتنفيذ أعمال توسعة طريق جرش عجلون المحاذي لاستثمارات المدعين في عام 2000 والذي أنجز فعلياً بتاريخ 11/6/2001 وكان ذلك بهدف تحقيق المصلحة العامة للمواطنين في تيسير استخدامهم للشارع المذكور .

وأن الجهة المدعى عليها قد قامت بالمهام والواجبات التي أناطها بها المشرع في حدود الصلاحيات المقررة لها في قانون الطرق رقم 24 لسنة 1986 ولم يكن هدفها إلحاق الضرر بمصالح المدعين وأن هدف الجهة المدعى عليها من إغلاق الطريق المحاذي لاستثمارات المدعين هو توسعته للمصلحة العامة.

فتكون الجهة المدعى عليها قد استعملت حقها بوجه مشروع وأن الجواز الشرعي ينافي الضمان وإذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما وذلك لأن الضرر الخاص يحتمل لرد الضرر العام فإن ذلك ينفي النية لديها بتعمد إلحاق الضرر بمحلات المدعين وبالتالي فإن الجهة المدعى عليها تكون غير مسؤولة عن تعويضهم عن الكسب الفائت والأضرار اليومية وأن دعواهم من هذه الجهة لا تستند إلى أساس قانوني مما يتعين رد هذا السبب).

وذات المعنى تؤكده محكمة النقض المصرية

في حكمها رقم ١٠٩٠٤ لسنة ٨١ قضائية الصادر بجلسة ٢٠١٨/٠٥/٠٦ والتي قضت فيه بأن: (المقرر في – قضاء محكمة النقض – أن النص في المادة الخامسة من القانون المدني على أن ” يكون استعمال الحق غير مشروع في الأحوال الأتية …. ( ب ) إذا كانت المصالح التي يرمى إلى تحقيقها قليلة الأهمية بحيث لا تتناسب البتة مع ما يصيب الغير من ضرر بسببها ….” يدل على أن المشرع اعتبر نظرية إساءة استعمال الحق من المبادئ الأساسية التي تنظم نواحي وفروع القانون، والتعسف في استعمال الحق لا يخرج عن إحدى صورتين إما بالخروج عن حدود الرخصة أو الخروج عن حدود الحق، ففي استعمال الحقوق كما في إتيان الرخص يجب عدم الانحراف عن السلوك المألوف للشخص العادي).

القاعدة في القانون الأردني.

أما في التشريع الأردني فقد نص القانون الأردني على القاعدة في المادة 61 من القانون المدني الأردني حيث قال (الجواز الشرعي ينافي الضمان فمن استعمل حقه استعمالا مشروعا لا يضمن ما ينشأ عن ذلك من ضرر). حيث وضع القانون هذه المادة تحت نطاق استعمال الحق حيث إن القاعدة في رأي القانونيين عدم المسؤولية عن الأضرار التي قد تنشأ عن الاستعمال المشروع للحق، ثم حدد القانون المدني في المادة 66 معايير إساءة استعمال الحق حيث جاء في المادة ما يلي :

1-يجب الضمان على من استعمل حقه استعمالا مشروع.

2-ويكون استعمال الحق غير مشروع.

أ-إذا توفر القصد التعدي.

ب-إذا كانت المصلحة المرجوة من الفعل غير مشروع.

ج-إذا كانت المنفعة منه لا تتناسب مع ما يصيبه الغير من الضرر.

د-إذا تجاوز ما جرى عليه العرف والعادة

وذلك وفقا لكون الجواز في استعمال الحق غير مطلق، فإذا تعسف صاحبه فإنه يسأل عن ضمان الأضرار التي يلحقها بالغير.

ومنه فإن تكييف القانون الأردني للقاعدة يتوافق مع تكييف القاعدة في الشريعة حيث يرى القانون الأردني أن الجواز غير مطلق، بل مقيد بعدم التعسف فيه، وهذا هو الملاحظ على من كتب في هذه القاعدة من أهل القانون، حيث تناولوا بيانها من خلال حديثهم عن التعسف في استعمال الحق، باعتبار أن معايير التعسف هي ضوابط الجواز فالحق عندهم غير مطلق.

مقارنة مع القانون المغربي حول القاعدة.

في القانون المغربي لا يكفي أن تكون لصاحب الحق مصلحة ولو مشروعة في استعمال حقه حتى تنقضي عنه شبهة التعسف، بل ينبغي أن تكون هذه المصلحة ذات قيمة تبرر ما قد يصيب الغير من ضرر من جراء استعمال الحق، أما إذا كانت المصلحة تافهة بالقياس إلى الضرر الذي يعود على الغير، بحيث لا يوجد بينهما تناسب أطلاقا يصبح استعمال الحق أمرا غير مشروع، فترجح مصلحة الغير على استعمال حق الفرد. حيث إن المشرع المغربي متفق مع المشرع الأردني والشريعة في تكييف القاعدة، غير أنه شدد على موضوع التعسف في استعمال الجواز الشرعي، حيث يضع معيار واضح وهو التفاوت الشائع بين الضرر اللاحق بالغير والمنفعة العائدة لصاحب الحق حسب الظروف والملابسات الخاصة بكل حالة، والواقع أنه كثيرا ما يكون وجود مثل هذا التفاوت الجسيم قرينة على قصد الأضرار بالغير دون أن يتمخض القصد من استعمال الحق لذلك.

وقد أشار المشرع المغربي إلى هذا المبدأ ضمنيا في المادة 19 من مدونة الحقوق العينية بقولها : ” لمالك العقار مطلق الحرية في استعمال ملكه واستغلاله والتصرف فيه وذلك في النطاق الذي تسمح به القوانين والأنظمة الجاري بها العمل.”.

ل استعمال لحق يمنعه القانون أو النظام

ويستخلص من هذه المادة أن كل استعمال لحق يمنعه القانون أو النظام العام يعتبر تعسفا في استعمال هذا الحق، فالمالك له كامل حرية التصرف والانتفاع في ملكه بكل وسائل الانتفاع والاستغلال الممكنة من كرائه أو رهنه أو التصرف فيه بالبيع الى غير ذلك، غير أن هذا يكون وفقا لما تسمح به القوانين الجاري بها العمل .

وفي الأخير وبالنظر للأهمية البالغة التي تتسم بها نظرية التعسف في استعمال الحق في جميع المجالات وهيمنتها على فروع القانون برمته، فإنه أصبح من الضروري أن يعيد القانون المغربي النظر في نصوصه، وذلك حتى تدخل نظرية التعسف ضمن مجموعة القانون المدني وذلك وفق المعنى الذي عرفه الفقه المالكي مستمدا منه معاييرها وتطبيقاتها المتنوعة.

المصالح التي ترمي إلى تحقيقها قليلة الأهمية

ويعتبر الشخص متعسفا في استعمال حقه في هذه الحالة إذا كانت المصالح التي ترمي إلى تحقيقها قليلة الأهمية بحيث لا تناسب البتة مع ما يصيب الغير، والمطلوب هنا ليس تحقيق توازن كامل فقد لا يكون الشخص متعسفا إذا تساوى الضرر والمصلحة أو زاد الضرر عن المصلحة بنسبة معقولة، أما إذا رجح الضرر على المصلحة رجحناً كبيرا كان هذا تعسفا.

معيار عدم التناسب بين المصلحة والضرر

وقد تعرض المشرع المغربي إلى هذا المعيار ” معيار عدم التناسب بين المصلحة والضرر” في الفقرة الثانية من الفصل 94 من قانون الالتزامات والعقود ما يلي :

” غير أنه إذا كان من شأن مباشرة هذا الحق أن تؤدي إلى  إلحاق ضرر  فادح بالغير، وكان من الممكن تجنب هذا الضرر أو إزالته، من غير أذى جسيم لصاحب الحق، فإن المسؤولية المدنية تقوم إذا لم يجر الشخص ما كان يلزم لمنعه أو لإيقافه.”

ومن الملاحظ أن الفصل 94 من قانون الالتزامات والعقود عمل على جمع المعيارين الشخصي والموضوعي لنظرية التعسف في استعمال الحق، كما أن الفقرة الثانية تقيم من النظر إلى الضرر الفادحة مناسبة للتعرف على المعيار المادي لنظرية التعسف في كل نازلة على حدة.

وقد ركزت هذه الفقرة على مادة الضرر بغض النظر عن الدوافع له، حتى إذا كان فادحا لا يستطاع تحمله ألغيت بجانبه المصلحة الموازية لها مهما كانت.

رابعا: شروط إعمال القاعدة:

حتى تنطبق القاعدة السابقة فيتعين تحقق شرطين وهما:

1- يجب أن لا يكون الفعل المباح الناشئ عنه الضرر جائزاً بشرط السلامة:

فيمكن القول مثلاً أنه لما كان المرور في طريق المسلمين مباحاً إلا أن ذلك مقيداً بشرط السلامة، فإذا كان المار يستعمل حقه في المرور فإنه كذلك يستعمل حق غيره، ذلك أن المرور في الطريق هو أمراً مشترك، ومن ثم فيتعين على المار – الذي يستعمل حقه في المرور – ألا يأتي أي فعل من شأنه إلحاق الضرر بالغير الذي يمر من ذات المكان.

وهذا ما يمكن أن ينطبق على الأجزاء المملوكة مليكة شائعة بين الجيران في ذات العقار، فمن يضع أمام باب داره ما يؤذي جيرانه فيكون عليه الضمان، لأن استخدام السلم هو حق مكفول لجميع السكان بالعقار ومشروط بالسلامة.

2- يجب أن لا يكون الإتلاف ناشئ لمجرد قصد الإتلاف:

وذلك لأن الضمان يستدعي سبق التعدي، والجواز الشرعي يأبى وجوده فتنافيا[3]، ويترتب على ذلك أن المضطر الذي يخشى على نفسه من الهلاك إذا لم يأكل، فإنه إذا اعتدى على طعام الغير فيكون عليه الضمان، ذلك أن الاضطرار لا يبطل حق الغير.

ومن ثم فإن قصد إحداث الضرر يؤدي إلى وجوب الضمان حتى ولو كان الفعل جائزاً، وهذا ما أكدته محكمة التمييز الأردنية في حكمها رقم 713 لسنة 2021 – محكمة التمييز بصفتها الحقوقية الصادر بتاريخ 2021-03-10 والتي قضت فيه بأن: (استعمال الحق المشروع منوط بضوابط مؤداها بأن لا يلحق ضرراً بأحد كما لا يحول ذلك من مطالبة المتضرر بالتعويض أي أن القول بأن الجواز الشرعي ينافي الضمان مشروط بعدم إلحاق الضرر بالغير وإذا ما لحق بالغير ضرر نتيجة الاستعمال فله المطالبة بالتعويض عن ذلك الضرر وفق تقدير أهل الخبرة الفنية).

خامسا: تطبيقات القاعدة.

يوجد العديد من التطبيقات لقاعدة الجواز الشرعي ينافي الضمان، نذكر منها:

1- التطبيقات الفقهية:

من التطبيقات الواردة على هذه القاعدة أن من حفر حفرة في ملكة الخاص فتردى شخص بها فأصيب بضرر فلا ضمان له، ذلك أن تصرف الإنسان في ملكه الخاص غير مقيد بشرط السلامة للأخرين.

وكذلك فإن مستأجر العين لا يضمن ما يحدث لها من تلف ما لم يكن هذا التلف ناشئ عن تعدي أو تفريط منه، وبذلك قال الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، ونقل الإجماع ابن رشيد حيث قال ” العين المستأجرة أمانه في يد المستأجر إن تلفت بغير تفريط لم يضمنها[10].

ومن التطبيقات على القاعدة، أنه إذا أباح شخصاً طعامه لغيره فأكل منه فليس له ضمان عنده وذلك لأنه قد أباحه له، حيث إن الإباحة تدخل في نطاق الجواز، والجواز ينافي الضمان.

وأيضاً إذا قام أحد الأشخاص بفتح محل مجاور لمحل آخر مما ترتب عليه كساد الأخير فلا ضمان على صاحب المحل الجديد، لأن فتح محل جديد هو أمراً جائز، ولا ضمان مع الجواز.

2- التطبيقات القانونية:

أ- حق اللجوء إلى القضاء:

يُعد حق اللجوء إلى القضاء من الرخص الممنوحة للمواطنين بنص الدستور الذي نصت المادة (101/1) منه على أن (المحاكم مفتوحة للجميع ومصونة من التدخل في شؤونها)، ومن ثم فلا تثريب على من يستعمل هذه الرخصة حتى ولو ترتب على ذلك إلحاق ضرر بالخصم مالم تستعمل هذه الرخصة بسوء نية.

وهذا ما تقرره محكمة بداية شمال عمان

في حكمها رقم 5165 لسنة 2018 – بداية شمال عمان بصفتها الاستئنافية  الصادر بتاريخ 2018-11-08 والتي قضت فيه بأن (تجد المحكمة أن: اللجوء إلى القضاء طلبا للانتصاف هو حق دستوري ورخصة ولا يسال من يلج أبواب القضاء مدنيا عن التعويض إلا إذا ثبت أن استعماله لحق التقاضي ورخصة اللجوء إلى المحاكم كان بسوء نية وبنية التعدي والإضرار بالغير وفقا لحالات إساءة استعمال الحق المنصوص عليها في المادة 66 من القانون المدني والتي تندرج جميعا تحت مفهوم الإضرار أو التعدي كأساس للمسؤولية عن الفعل الضار في القانون المدني الأردني والذي يعني تجاوز الحد الواجب الوقوف عنده أو التقصير عن الحد الواجب الوصول إليه في الفعل والامتناع وفقا للمادة 256 من القانون).

قرار المحكمة الدستورية

ويؤكد ذات المعنى الحكم رقم (1) لسنة 2018 في الطعن رقم (1) لسـنة 2018 الصادر عن المحكمة الدستورية والتي قضت فيه بأن (والأصل أن ((الجواز الشرعي ينافي الضمان)) طبقاً لقاعدةٍ منصوص عليها في المادة 61 من القانون المدني نقلاً عن المادة 91 من مجلة الأحكام العدلية المستمدة من فقه الشريعة الإسلامية .

والتي تعد من الناحية الموضوعية قاعدة دستورية تتضمن مبدأً من مبادئ الدستور الأساسية وما يقتضيه ويستوجب من قيود وضوابط تُلزم صاحب الحق حتى ولو كان دستورياً محصّناً وصاحب الرخصة حتى ولو كانت قانونية مصانة بأن يستعمل حقه الدستوري أو رخصته القانونية استعمالاً مشروعاً، ويكون استعمال الدعوى مشروعاً إذا كان وفقاً للقواعد والأصول ودون مخالفة للقيود والضوابط التي حدّدها وسنّها المشرع.

وبطبيعة الحال، فإنه لا يترتب على هذا الاستعمال المشروع للدعوى أي ضمان أو مطالبة بالتعويض عما ألحقته بالطرف الآخر (المدعى عليه) من أضرار سواء كان المدعي قد ربح دعواه بالحكم لصالحه أو أنه خسرها بردها شكلاً أو موضوعاً؛ ما دام قد استعملها استعمالاً مشروعاً على النحو المشار إليه، وهذا يعني أن من استعمل حقه في الدعوى استعمالاً مشروعاً يكون محقاً في دعواه حتى ولو رُدّت في حالات قليلة وربما نادرة).

ب- حجز أموال الغير:

فطالما تم استعمال حق حجز أموال الغير لغرض مشروع فلا ضمان على الحاجز لأنه يستعمل حق قرره له القانون.

وهذا ما أكدته محكمة التمييز الأردنية في حكمها رقم 1177 لسنة 1996 – محكمة التمييز بصفتها الحقوقية الصادر بتاريخ 1996-07-24 والتي قضت فيه بأن (للجنـة إدارة بنـك الأردن والخليج حجـز أموال مديني البنك لدى طرف ثالث عملا بالفقرتين (ج ، د) من المادة الأولى من قـرار لجنـة الأمن الاقتصادي رقم 19 لسنة 1989 لذا فإنها لا تضمن ما ينشا عن ذلك من ضرر عملا بالمادة (61) من القانون المدني التي قضت بان الجواز الشرعي ينافي الضمـان طالما أن لجنة إدارة البنك استعملت حقها القانوني في الحجز ولم تستعملـه بسـوء نية بقصد التعدي).

ج- انتفاء الضمان مع الإجازة:

فمن أجاز لغيره الاستفادة بملكه فليس له المطالبة بالضمان، ذلك أن الإجازة تحول دون المطالبة بالتعويض.

وهذا ما تؤكده محكمة التمييز الأردنية في حكمها رقم 194 لسنة 1983 – محكمة التمييز بصفتها الحقوقية الصادر بتاريخ 1983-05-30 والتي قضت فيه بأن (إذا سمح المدعي للمدعى عليها بحفر بئر ارتوازي في أرضه فإن مطالبته لها باجر مثل الجزء الذي استعمل لأغراض الحفر وبتعويض ما لحق هذا الجزء من ضرر لا تكون قائمة على أساس لان الجواز الشرعي ينافي الضمان).

سادسا : فروع القاعدة.

ويتفرع على القاعدة ما لو دل سارقاً على مال إنسان فسرقه أو دل آخر على القتل أو قطع الطريق ففعل فلا ضمان على الدال، بل على السارق والقاتل وقاطع الطريق لأنه المباشر وكذا لو دفع سكيناً إلى صبي مميز ليمسكه له فقتل الصبي به نفسه فلا ضمان على الدافع المتسبب لأنه تخلل بين فعله والتلف فعل فاعل مختار وهو الصبي لأنه ضرب نفسه باختيار ( ر المرآة ) فلو لم يحصل التلف باختياره بأن وقع السكين من يد الصبي عليه فجرحه ضمن الدافع.

إنما يجب الضمان على المباشر وحده دون المتسبب إذا كان السبب لا يعمل في الإتلاف إذا انفرد عن المباشرة كحفر البئر فإنه بانفراده لا يوجب التلف ما لم يوجد الدفع الذي هو المباشرة وإن كان لولا الحفر لا يتلف بالدفع أما إذا كان السبب يعمل في الإتلاف إذا انفرد عن المباشرة كالسوق مع الركوب فإن المباشر والمتسبب يشتركان حينئذ في ضمان ما تتلفه الدابة لأن السائق وإن كان متسبباً والراكب وإن كان مباشراً فإن السبب ها هنا وهو السوق يعمل في الإتلاف إذا انفرد عن الركوب فيضمنان بالسوية ( ر رد المحتار من جناية البهيمة ) .

وأنه لو حفر إنسان بئرا في ملكه الخاص، أو في طريق العامة، ولكن بإذن من ولي الأمر فوقع فيها حيوان، أو إنسان فهلك، لا يضمن الحافر للبئر، وكذلك لو خالف حفض الوديعة ، أو خالف في استعمال العين المستأجرة، كما إذا قال: إذا احفظها في البيت الفلاني من دارك فحفظها في بيت آخر مثله، أو استأجر الدابة ليحلمها مقدارا معينا من حنطة فحملها المقدار نفسه من حنطة أخرى فلا ضمنا عليه في شيء من ذلك.

سابعا: الاستثناءات الواقعة على القاعدة.

1- الاستثناءات القانونية:

لا تنطبق القاعدة في الحالة التي يتعارض فيها استعمال الحق مع الالتزامات التعاقدية المتمخضة عن العلاقات التعاقدية الناشئة بين الأفراد، حيث يجب على الأفراد تنفيذ العقد المبرم بينهم وفقاً لما يقتضيه مبدأ حسن النية.

وهذا ما تؤكده محكمة التمييز الأردنية

في حكمها رقم 6083 لسنة 2020 – محكمة التمييز بصفتها الحقوقية الصادر بتاريخ 2021-02-17 والتي قضت فيه بأن: (أخطأت محكمة الاستئناف بقرارها بالاستناد إلى المادة 61 من القانون المدني وتطبيق قاعدة الجواز الشرعي ينافي الضمان في ظل وجود علاقة تعاقدية بين المميز والمميز ضدهم من الثاني وحتى الخامس تحكم أطرافها وحددت واجبات والتزامات كل منهم تجاه الآخر وكان يتوجب إعمال قاعدة حسن النية في تنفيذ عقد الإيجار).

وفي حكم آخر لها قضت محكمة التمييز الأردنية بأن:

(وحيث إن الضرر اللاحق بالمدعية عن إخلال المدعى عليه بعقد الزواج الذي كان يربطهما كمسيحين وطلاقه لها بعد اعتناقه الإسلام هو نوع من الضرر الناشئ عن عوامل اجتماعية ودينية والتعويض يكون لجبر الضرر اللاحق بالدائن بصرف النظر عن اقتدار المدين ويكون استعمال الزوج المسلم لحقه الشرعي في تطليق زوجته المسيحية لا يعفيه من ضمان الضرر الذي لحق بها من جراء هذا الفعل، فيكون ما توصلت إليه محكمة الاستئناف بهذا الجانب قد وافق القانون والطعن من هذا الجانب غير مقبول).

فالحكم السابق يبين لنا أن قاعدة ” الجواز الشرعي ينافي الضمان” لا تنطبق في الحالة التي يستعمل فيها الشخص حقه استعمالاً يتعارض مع ما ترتب عليه من التزامات بموجب العقد، ولما كان عقد الزواج المسيحي هو من العقود الأبدية، وحيث أن الزوجة المسيحية التي طُلقت قد حرمت من إعالة زوجها لها والإنفاق عليها، وحيث أن هذا الطلاق قد ألحق بها ضرراً أدبياً، فلذلك تكون مستحقة للتعويض ولا يقدح في ذلك أن الطليق استعمل حقه لأنه قد خالف الالتزامات التعاقدية التي كانت تثقل كاهله بموجب عقد الزواج الذي كان مبرم بينه وبين مطلقته.

2- الاستثناءات الفقهية:

استثنى العلماء بعض المسائل من نطاق القاعدة، ومن ضمن تلك المسائل ما يلي:

  • إذا حبس الوكيل العين حتى يقبض الثمن من الموكل فهلكت العين في يده فإنه يكون مُلزم بالضمان على الرغم من أن حبسه للعين أمراً جائزاً وحق مقرر له.
    ذلك أن حبس الوكيل للعين جعلته غريماً للموكل، فلم يضح ما في يده بحكم وكالته ومن ثم فيكون عليه الضمان إن هلكت العين وهي تحت يده.
  • إذا تصدق الملتقط باللقطة بعد تعريفها زمناً كافياً، ولكن ظهر صاحبها بعد ذلك فإنه يكون بالخيار بين أن يجيز الصدقة أو يرجع على الملتقط بالضمان.
  • إذا وقع حريق في دار فهدم مالك الدار ملك جاره لمنع سريان الحريق بدون الحصول على إذن بذلك من الجار أو من القاضي فإنه يكون ضامناً لدار جاره وهي في حالتها الكاملة.

المراجع :

أحمد الزرقا، شرح القواعد الفقهية.

القانون المدني الأردني.

قانون الالتزامات والعقود المغربي.

مقال بعوان “الضرر الفاحش وأحكام الضمان عنه في علاقات الجوار (دراسة مقارنة)”، 2015، العنوان الإلكتروني : https://law.uokerbala.edu.iq/wp/blog/2015/02/16/horaa/.

عامر حسين، التعسف في استعمال الحقوق وإلغاء الحقوق، القاهرة، دار النهضة العربية.

مجد الدين الفيروز آبادي، قاموس المحيط، دار الحديث، القاهرة، مصر، 2008، ص1081.

عبد الرحمان الشرقاوي، القانون المدني دراسة حديثة للنظرية العامة للالتزام في ضوء تأثرها بالمفاهيم الجديدة للقانون الاقتصادي، الجزء الثاني، مصادر الالتزام، الوقعة القانونية، مطبعة المعارف الجديدة ، الرباط، الطبعة الثالثة، سنة 2018 ،ص 71.

[1] أنظر الأستاذ الدكتور/ محمد كمال أمام – أصول الفقه الإسلامي – دار المطبوعات الجامعية – 2019 – ص115.

[2] عيسى خيري الجعبري – قاعدة الجواز الشرعي ينافي الضمان – 2020 – ص 21،22.

[3] الشيخ أحمد بن الشيخ محمد الزرقا – شرح القواعد الفقهية – دار القلم – 1938 – ص449.

[4] سورة البقرة – الآية 194.

[5] سورة البقرة – الآية 126.

[6] محمد محمود أحمد طلافحة – قاعدة الجواز الشرعي ينافي الضمان وتطبيقاتها في الفقه الإسلامي – 2006 – ص 6،7.

[7] حديث صيحي رواه الأمام مسلم ح140.

[8] أخرجه محمد بن عيسى الترمذي.

[9] الدكتور/ عصام سليم – المدخل للعلوم القانونية “نظرية الحق” – دار الجامعة الجديدة – 2013 – ص376.

[10] خالد بن ماجد بن زايد الحابوط المطيري – التطبيقات الفقهية لقاعدة الجواز الشرعي ينافي الضمان – ص40.

الرئيسية
إختصاصات
مقالات
واتساب
إتصال
error: المحتوى محمي !!