أحيانا قد تتطلب بعض العقود أنوعا من الضمانات التي تُلزم – الى حد ما – الطرفين بالتعاقد ، ولحماية نية الطرفين في إبرام العقد وتأكيد تنفيذه ، إضافة لحماية مصلحة الطرفين وضمانا لكليهما بعدم إضاعة الفرصة على الآخر بالتعاقد مع أطرف أخرى وما قد يفوت من ربح ، وقد يحتاج المتعاقدين لاستعمال وسيلة تضمن لهما حق العدول عن العقد عندما تطرأ ظروف معينة ، ومن أهم هذه الضمانات ما يسمى بالعربون. في هذا المقال سنبين حكم العربون بشكل عام وحكم العربون في عقد البيع وحكم العربون على عقد بيع الشقق وبيع الأراضي إذا كان بعقد بيع مبدأي خارج دائرة الأراضي.
يعتبر العربون في حد ذاته وعدا بالتعاقد مصحوبا بالتزام أحد طرفي العقد بدفع مبلغ من المال – في اغلب الأحيان- للطرف الآخر، بمعنى انه يحق لطرفي العقد العدول عن التعاقد مشروط بخسارة قيمة هذا العربون، فاذا عدل من دفع العربون فقده ، وإذا عدل من قبض العربون رده ومثله ولو لم بترتب على عدولة أي ضرر للطرف الآخر.
تفصيلات كثيرة يحوجها مفهوم العربون ، لذا سأقوم بتقسيم هذه الدراسة على النحو الاتي :
المطلب الأول : الدلالة القانونية للعربون في ظل القانون المدني الأردني والفقه
المطلب الثاني : أحكام العربون في القانون المدني الأردني
المطلب الثالث : التفريق بين مفهوم العربون والشرط الجزائي
المطلب الأول: الدلالة القانونية للعربون :
لم يتطرق المشرع الأردني لبيان الدلالة القانونية للعربون بشكل صريح، حيث نص القانون المدني في المادة 107 والوحيدة على موضوع العربون ، وجاء فيها : ” 1. دفع العربون وقت إبرام العقد يفيد ان لكل من المتعاقدين الحق في العدول عنه الا إذا قضى الاتفاق بغير ذلك 2 . فاذا عدل من دفع العربون فقده وإذا عدل من قبضه رده ومثله. “
اختلفت القوانين الوضعية في دلالة العربون القانونية ، فالقوانين اللاتينية بوجه عام والمتأثرة بها تأخذ بدلالة العدول ،بحيث يكون غرض المتعاقدين من ذلك حفظ الحق بالعدول عن التعاقد مقابل فقد العربون من طرف من أعطاه أو رده مضاعفا إذا حصل العدول ممن قبضه ، في حين أخذ الاتجاه الآخر وهي القوانين الجرمانية والمتأثرة بها أخذت بدلالة التأكيد ، بمعنى البدء في تنفيذ العقد بمجرد دفع العربون ولا مجال لذلك المفهوم في العدول عن العقد [1].
ويتضح من خلال نص المادة 107 من القانون المدني ، ان المشرع الأردني تأثر الاتجاه المأخوذ في القوانين اللاتينية ، حيث اعتبر المشرع الأردن العربون بأنه وسيلة عدول ، يستطيع الطرفين المتعاقدين العدول عن العقد مقابل خسارة العربون ممن طلب بالعدول أو قام به عن التعاقد . وهذا جليّ واضح في العديد من قرارات محكمة التمييز الأردنية ،
حيث جاء في القرار رقم 2580/2001
* يرى الفقه ان للعربون احدى دلالتين اما دلالة العدول وأما دلالة البت ، وقد ساير المشرع الاردني في المادة 107 من القانون المدني التشريعات العربية الأخرى بالأخذ بدلالة العدول .
* يكون العربون هو مقابل الحق في العدول ، ويعتبر العدول استعمالا لحق يستحق عنه مقابل ولو لم يترتب على العدول أي ضرر أو كان الضرر اقل من قيمة العربون .
* اذا اتفق الطرفان على خيار العدول عندها يجوز لكل منهما ان يعدل عن العقد ، فان عدل من دفع العربون وجب عليه تركه وان عدل من قبضه رده ومثله
وفي القرار رقم 254/2004 :
” 1. يستفاد من المادة 107 من القانون المدني الأردني أنها نصت صراحة على أن دفع العربون وقت إبرام العقد يفيد أن لكل من المتعاقدين الحق في العدول عنه إلا إذا قضى الاتفاق بغير ذلك . وأن الفقرة الثانية من هذه المادة قد بينت أن حكم العربون بحالة العدول عن العقد هي فقدانه وإذا كان العدول من قبل قابض العربون فإنه ملزم برده وبرد مثله . فاذا عدل المدعي عن إتمام العقد فإن عدولة يفقده العربون الذي دفعه ولا يحق له المطالبة برده .”
على ضوء ما تقدم ، يمكن القول بأن للعربون دلالتين أو مفهومين ، الأولى بأنه وسيلة للعدول عن التعاقد ، والثانية ، بأنه سيلة للبت والبدء في تنفيذ العقد ، وقد اخذ المشرع الأردني بالدلالة الأولى .
المطلب الثاني : أحكام العربون
يمكن ان نستخلص الأحكام المتعلقة بالعربون والأحكام المتعلقة بكل من أطراف العقد من خلال نص المادة 107 من القانون المدني ، وان هذه الأحكام تدور حول طبيعة العربون التي أشار لها المشرع في القانون المدني كونه وسيله للعدول عن التعاقد ، وعليه ، نلخصها في ثلاث حالات :
الأولى : حالة استعمال حق العدول عن التعاقد
بداية ، لم يحدد المشرع وقتا معينا لاستعمال الحق في العدول عن التعاقد ، لذلك يمكن القول بان تحديد هذه المدة منوط بطرفي التعاقد ، ، وعليه ، فالأصل في القانون المدني ان العربون أنما شرع لحفظ حق المتعاقدين في العدول عن التعاقد في مقابل خسارة قيمة العربون أو بعبارة أخرى يكون قد دفع ثمن استخدام حقه في ذلك العدول .
فإذا كان الطرف الذي عدل عن التعاقد هو من دفع قيمة العربون ، فيكون خسر قيمة العربون ثمنا لاستعمال حقه في العدول. اما إذا كان الطرف الذي قبض العربون هو من عدل عن التعاقد ، فعليه رد قيمة العربون مضاعفة .
تجدر الإشارة ان خسارة قيمة العربون لا تفهم على أنها تعويض عن الضرر الذي أصاب الطرف الآخر، وإنما هي ثمن استعمال الحق في العدول عن التعاقد دون البحث في تحقق الضرر من عدمه. وبهذا يختلف العربون عن المفهوم الشرط الجزائي والذي سنقوم بتوضيحه في المطلب اللاحق.
الثانية : حالة عدم استعمال حق العدول عن التعاقد والبدء في تنفيذ العقد.
في هذه الحالة ، يدخل العقد حيز التنفيذ ولا مجال للعدول عن التعاقد ، وتغدو معه قيمة العربون جزء من الثمن المسمى في العقد ، فاذا كان ثمن المبيع على سبيل المثال 5 الأف دينار ، وقيمة العربون المتفق عليها ألف دينار ، فاذا شُرع بتنفيذ العقد ولم يستعمل أي الطرفين حقه في العدول عن التعاقد ، تخصم قيمة العربون التي تساوي 1000 دينار من الثمن المسمى 5000 دينار ، فيصبح الثمن المتبقي يساوي 4000 دينار .
الثالثة : حالة عدم استعمال الحق في العدول عن التعاقد وعدم الالتزام بتنفيذ العقد.
اذا لم يقم أي من طرفي العقد بالشروع في تنفيذ الالتزام رغم عدم استعماله لحقه في العدول عن التعاقد ونفاد المدة المحددة أو المتفق عليها أو المتعارف عليها بين طرفي العقد على استعمال الحق في العدول، ففي هذه الحالة يحق للطرف الآخر التقدم للقضاء بدعوى الزام الطرف الآخر بالتنفيذ أو فسخ العقد، وفي كلتا الحالتين يجوز للمحكمة ان تحكم للطرف المتضرر بالتعويض وفقا لأحكام المسؤولية العقدية، ولا تنحصر قيمة التعويض في حدود قيمة العربون وإنما قد تكون اكثر أو اقل منه ، يرجع الأمر لتقدير المحكمة في وزن البينات ولاعتبارات عديدة مبنية على طبيعة العقد.
المطلب الثالث : التفريق بين مفهوم العربون والشرط الجزائي
قد يختلط على البعض بين مفهوم خسارة العربون ومفهوم التعويض عن الضرر أو بمعنى أخر الشرط الجزائي ، ففي حين ان كلاهما ينشأ عند عدم القيام بتنفيذ العقد ، الا انهما يختلفان اختلافا جوهريا ، فقد يتفق الدائن والمدين على مبلغ من المال يدفعه هذا الأخير كتعويض جزاء عن عدم تنفيذ الالتزام أو عن تأخره في التنفيذ ، فيسمى ذلك المبلغ بالشرط الجزائي ، لأنه يوضع كشرط جزائي على عدم التنفيذ عموما ، أو على التأخر في التنفيذ على وجه الخصوص [2] .
المطلب الرابع : اجتهادات قضائية
العربون على شقة يعتبر باطل
المادة (168) من القانون المدني قد نصت على ان: (1. العقد الباطل ما ليس مشروعا بأصله ووصفه بان اختل ركنه أو محله أو الغرض منه أو الشكل الذي فرضه القانون لانعقاده ولا يترتب عليه اي إثر ولا ترد عليه الإجازة. 2. ولكل ذي مصلحة ان يتمسك بالبطلان وللمحكمة ان تقضي به من تلقاء نفسها. 3. ولا تسمع دعوى البطلان بعد مضي خمس عشرة سنة من وقت العقد).
كما ونصت المادة (105) من القانون ذاته على ان: (1. الاتفاق الذي يتعهد بموجبه كلا المتعاقدين أو أحدهما بإبرام عقد معين في المستقبل لا ينعقد الا إذا عينت جميع المسائل الجوهرية للعقد المراد إبرامه والمدة التي يجب إبرامه فيها.2. واذا اشترط القانون لتمام العقد استيفاء شكل معين فهذا الشكل تجب مراعاته أيضا في الاتفاق الذي يتضمن الوعد بإبرام هذا العقد) .
كما نصت المادة (1148) من ذات القانون: (لا تنتقل الملكية ولا الحقوق العينية الأخرى بين المتعاقدين وفي حق الغير الا بالتسجيل وفقا لأحكام القوانين الخاصة به).
ونصت المادة (2) من قانون التصرف في الأموال غير المنقولة لسنة (1953) السارية على التصرف وقت إبرامه على: (ينحصر إجراء جميع معاملات التصرف في الأراضي الأميرية والموقوفة والأملاك والمسقفات والمستغلات الوقفية وإعطاء سندات التسجيل بها في دوائر تسجيل الأراضي .)
* لا يرد القول ان المادة 107 من القانون المدني لا تجيز رد العربون المدفوع مقابل بيع شقة في حالة نكول الطرف الآخر عن القيام بالتزاماته لان حكم هذه المادة يتعارض مع قانون التسوية الذي هو قانون خاص أوجبت المادة 1448 من القانون المدني وجوب مراعاة أحكامه الخاصة .
إذا كانت قطعة الأرض المقامة عليها الشقة موضوع البيع واقعة في مكان تمت فيه التسوية فان عقد بيعها يعتبر باطلاً بطلاناً مطلقاً ويكون كل طرف في العقد عرضة للعقاب عملاً بالفقرة الثالثة من المادة 16 من قانون تسوية الأراضي والمياه رقم 40 لسنة 1952 ولا ينتج مثل هذا العقد الباطل اي إثر .
صحة العقد المقصود إبرامه على وجوب استيفاء شكل معين
1- اشترطت المادة (105/1و2) من القانون المدني لتمام العقد الذي يتعهد بموجبه كلا المتعاقدين أو احدهما بإبرام عقد معين في المستقبل استيفاء شكل معين فهذا الشكل يجب مراعاته أيضاً في الاتفاق الذي يتضمن الوعد بإبرام هذا العقد، كما أوضحت المذكرة الإيضاحية للقانون المدني الأردني أنه إذا كان القانون يعلق صحة العقد المقصود إبرامه على وجوب استيفاء شكل معين ففي هذه الحالة ينسحب الحكم الخاص باشتراط الشكل على الاتفاق التمهيدي نفسه.
وكذلك فقد نصت المادة (1148/2) من القانون المدني على أنه عند تطبيق أحكام هذا القانون تراعي أحكام القوانين الخاصة ومن الرجوع إلى أحكام القوانين الخاصة التي تحكم عقد بيع العقار ومنها المادة الثالثة من قانون التصرف بالأموال غير المنقولة والمادة (16) من قانون تسوية الأراضي والمياه فقد حظرت المادة الثالثة سماع أي دعوى أو إجراء أي معاملة في الأموال غير المنقولة التي أصدرت سندات تسجيل فيها.
واعتبرت المادة (16) المذكرة معاملات البيع خارج دائرة التسجيل جريمة يعاقب عليها القانون وباطلة، وعليه فإن الوعد بالبيع والتعهد بالفراغ يعتبر باطلاً، وبالتالي فإن عدم الحكم ببدل العربون يتفق وأحكام القانون لأن العربون يصح في العقود الصحيحة وخاصة ما يتعلق بصحة الشكل، وحيث أن العقد الباطل لا يرتب أثراً فلا يلزم المدعى عليه ببدل العربون كتعويض وينحصر التزامه برد العربون وذلك رجوعاً عن أي اجتهاد سابق حول التعهد بفراغ الأموال غير المنقولة.
وعليه، يمكن استخلاص الاتي:
- الشرط الجزائي أنما يكون لضمان تنفيذ الالتزام، بحيث يكون بمثابة جزاء لمن يمتنع أو يتخلف عن تنفيذ التزامه، بينما العربون، قد يكون وسيلة للعدول عن التعاقد، أو وسيلة للبت والبدء في تنفيذ العقد.
- الشرط الجزائي يستحق في حال تخلف أحد الأطراف عن تنفيذ التزامه أو امتنع عن تنفيذ مع تحقق الضرر، في حين أن العربون يُدفع مقدما عند إبرام العقد.
تم بحمد الله
[1] انظر : العلامة السنهوري ، الوسيط في شرح القانون المدني ، الجزء الأول ، ص 259-260 .
[2] السنهوري ، الوسيط في شرح القانون المدني ، نظرية الالتزام ، الجزء الثاني ، صفحة 851
——————————————————————————————