من نعم الله على خلقه أن ألف بين قلوبهم وجعل بينهم المودة والرحمة، وقرر من الأحكام ما يحقق النكافل والترابط بين الناس، كما نهى عن أي تصرف يترتب عليه التخاصم والكراهية، وقرر في ذلك الشأن العديد من التعاليم والأحكام التي تكفل عدم تحققها، كما قرر بعض السبل التي تخفف من آثار الشقاق والخصومة متى وقعت، ومن أهم تلك السبل هو سبيل الصلح.
وقد سار القانون الوضعي على نهج الشريعة الإسلامية وقرر من الأحكام ما يخضع لها الصلح ويتم في إطارها، ونظراً لأهمية الصلح فقد وقع اختيارنا على تناول عقد الصلح في هذا المقال، متعرضين في سياق ذلك لما قررته الشريعة الإسلامية والقانون من أحكام لتنظيم هذا النوع من العقود.
أولاً: ما هو المقصود بالصلح؟
ثانياً: الأدلة على مشروعية الصلح
ثالثاً: أوجه الاختلاف بين الصلح وبعض الأنظمة القانونية المشابهة
رابعاً: شروط عقد الصلح في الفقه الإسلامي
خامساً: الشروط القانونية لعقد الصلح
سادساً: الآثار المترتبة على عقد الصلح في الفقه الإسلامي
سابعاً: الآثار القانونية المترتبة على عقد الصلح
ثامناً: نماذج من أحكام محكمة التمييز الأردنية ذات العلاقة
تاسعاً: الخاتمة
أولاً: ما هو المقصود بالصلح؟
باعتبار أننا قد تناولنا التعريف بالعقد في أكثر من مقال فإننا سنكتفي ببيان المقصود بالصلح، تاركين التعريف بالعقد للمقالات المتعددة التي تناولنا فيها التعريف به.
وحتى يكون مفهوم الصلح واضحاً لنا فإنه ينبغي أن نتعرض إلى تعريفه في اللغة، وأيضاً في الفقه الأسلامي، وكذلك في القانون الوضعي.
1- التعريف اللغوي للصلح
بالبحث عن معنى الصلح لغة تبين لنا أن هناك جانب من الناس يقولون أن الصلح قد ورد في معرض الحديث عن التصحيح، فيقال: صلح المعلم ورقة الإجابة للدلالة على أن المعلم صحح ورقة الإجابة، فيراد بالصلح هنا التصحيح، إلا أن ذلك الأمر ليس صحيحاً نظراً لكون الصلح – بإجازة كونه تصليح – فإنه يكون للفاسد أو المتعطل من الاشياء والآلات، حيث بقال: أصلحت الآلة أي قمت بإصلاح العطل بها، أي أن الإصلاح للأمور المعنوية بينما التصحيح يكون للأمور المادية كتصويب الإجابة أوة تصحيح المنهج الفكري أو الحياتي.
أما المعنى الصحيح للصلح لغة أنه نقيض الفساد، وذلك مصداقاً لقوله تعالى (الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون)[1]، فيستدل منه لغة على إصلاح ذات البين[2].
2- التعريف الفقهي للصلح
عرف علماء الفقه الإسلامي الصلح تحت أكثر من تعريف، وسنتناول أهم تلك التعاريف وأبرزها على النحو التالي:
- عرف جانب من الفقه الإسلامي الصلح بانه عقد ينتهي بموجبه الشجار والنزاع بين الطرفين المتصالحين، فيتم دفع النزاع بالتراضي في عقود التصرفات[3].
- بينما عرفه جانب آخر بأنه عقد تم تقريره لإنهاء النزاع وقطع الخصومة بالتراضي فيما بين الأطراف المتخاصمة.
- بينما اتجه البعض إلى تعريفه بأنه معاقدة يتم إبرامها بغرض الإصلاح بين أطراف متخاصمة.
ومن خلال تلك التنعاريف وغيرها من التعاريف الأخرى التي لم يتسع المقام لذكرها نستخلص أن عقد الصلح من وجهة نظر الفقه الإسلامي هو عقد يتم إبرامه بالتراضي بين أطراف متخاصمة ومتنازعة، يكون الهدف منه إنهاء تلك الخصومة ورفع ذلك النزاع، ولم تتضمن تلك التعاريف ما يقصر الصلح على الخصومات والمنازعاعت القائمة، مما نستخلص منه أن الفقه الإسلامي يقر الصلح الذي ينعقد بشأن خصومة مستقبلية محتملة.
3- التعريف القانوني للصلح
عرف فقهاء القانون عقد الصلح بأكثر من تعريف، وكان أهم تلك التعاريف أنه عقد يتم بموجبه إنهاء نزاع وخصومة قائمة أو محتملة عن طريق التنازل المتبادل بين طرفيه.
ولم يخرج المشرع الأردني في تعريفه لعقد الصلح عن تعريف الفقه الإسلامي والفقه القانوني له، حيث عرفه في نص المادة رقم (647) من القانون المدني رقم 43 لسنة 1976 بأنه (عقد يرفع النزاع ويقطع الخصومة بين المتصالحين بالتراضي).
ثانياً: الأدلة على مشروعية الصلح
يجد عقد الصلح الأدلة المؤيدة لمشروعيته في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وأيضاً في الإجماع، ونظراً لتعدد تلك الأدلة فسوف نوضح نماذج على تلك الأدلة في النقاط الآتية.
1- الأدلة على مشروعية الصلح من القرآن الكريم
تتعدد الأدلة على مشروعية الصلح في القرآن الكريم، ونذكر من تلك الأدلة:
- قوله عز وجل (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير)[4]، حيث حثت االآية الكريمة على الصلح بين الزوجين وقاية من تحقق نشوز أو إعراض، واختتمت الآية بقوله (والصلح خير) دلالة على ما في الصلح من خير لطرفيه وللمجتمع.
- قوله تعالى (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين)[5]، ففي هذه الآية أمر من الله عز وجل بإجراء الصلح بين المؤمنين، وبالضبع فإن ما يأمرنا الله به يكون أمراً واجباًن ويكتسب الصلح مشروعيته من خلال أمر الله به.
2- الأدلة على مشروعية الصلح من السنة النبوية المطهرة
من الأحاديث النبوية التي اقرت بمشروعية الصلح ما رواه ابي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال “الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً احل حراماً أو حرم حلالاً”[6]، حيث نجد أن دلالة الحديث الشريف واضحة جلية بأن الصلح مشروع طالما كان لا يحل حراماً ولا يحرم حلال.
3- الأدلة على مشروعية الصلح من الإجماع
أجمع علماء الفقه الإسلامي على مشروعية الصلح ووصفوه بأنه من أهم العقود التي تحقق الفائدة للفرد والمجتمع، وذلك لما يحققه من إزالة الشقاق ورفع التخاصم، حيث قيل في ذلك أن “لا يقع الصلح غالباً إلا من رتبة لما هو دونها على سبيل المداراة تحقيقاً لبعض الحق”[7].
ثالثاً: أوجه الاختلاف بين الصلح وبعض الأنظمة القانونية المشابهة
هناك بعض الأنظمة القانونية التي قد تختلط لدى البعض مع الصلح كنظام قانوني، ويمكننا أن نعزي ذلك إلى انها في مجملها أنظمة تسعى إلى حسم وإنهاء المنازعات والخلافات، إلا أنها في جوهرها تختلف تماماً عن الصلح، ومن أهم تلك الأنظمة التحكيم، والوساطة، والإجازة، وسوف نوضح في الأسطر القليلة القادمة أوجه الاختلاف بينها وبين الصلح.
1- الاختلاف بين الصلح والتحكيم
يعرف التحكيم بأنه اتفاق بين الأفراد على إحالة ما ينشب بينهم من منازعات حالية أو مستقبلية بشأن تنفيذ عقد ما على محكم أو أكثر ليتولى مهمة الفصل في هذا النزاع بديلاً عن المحكمة المختصة، ومن خلال هذا التعريف يتبين لنا أن التحكيم يختلف عن الصلح في عدة أوجه، ومن أهم تلك الأوجه يمكننا أن نذكر ما يلي:
- يتم التحكيم من قبل محكم أو أكثر يتم اختيارهم من قبل المتخاصمين، في حين أن الصلح يتم من قبل المتخاصمين أنفسهم دون تدخل أي شخص آخر.
- في التحكيم لا يقدم أياً من طرفي الخصومة تنازلاً للطرف الآخر، في حين أن الصلح يتم فيه تقديم تنازل متبادل من قبل طرفيه.
2- الاختلاف بين الصلح والوساطة
يقصد بالوساطة لجوء الخصوم في النزاع إلى طرف محايد ليس له أي علاقة تربطه بهما أو بالنزاع القائم بينهما، ويمنحونه السلطة لوضع حد لنزاعهما وإيجاد الحل المناسب له في صورة مقترحات قد يأخذ أو لا يأخذ بها الطرفين المتنازعين، والوساطة في ذلك تختلف عن الصلح في أنها قد تنهي النزاع إذا ما اتفق الطرفين على الأخذ بأحد مقترحات الوسيط أو لا تنهيه متى لم يحدث اتفاق بينهما على أياً من مقترحات الوسيط، بينما في الصلح ينتهي النزاع بمجرد اتفاق الطرفين.
3- الاختلاف بين الصلح والإجازة
الإجازة في العقود القابلة للإبطال هي نزول صاحب الحق في إبطال العقد عن هذا الحق فيصبح العقد صحيحاً ونافذاً في حقه، وتختلف تلك الإجازة عن الصلح في أن الإجازة تمثل تنازل طرف من الطرفين عن حقه ويكون هذا التنازل عن حقه كاملاً، بينما في الصلح يكون التنازل متبادل بحيث يتنازل كلاً من الطرفين عن جزء فقط من حقه لإتمام الصلح.
رابعاً: شروط عقد الصلح في الفقه الإسلامي
حتى يكون عقد الصلح صحيحاً ونافذاً في حق طرفيه فإن الفقه الإسلامي يشترط تحقق بعض الشروط في هذا العقد، منها ما يتعلق بصيغة العقد، ومنها ما يتعلق بطرفي العقد، ومنها ما يتعلق بمحل عقد الصلح، ومنها ما يتعلق ببدل الصلح.
1- شروط صيغة عقد الصلح
يقصد بصيغة العقد في الفقه الإسلامي ما يصدر من المتعاقدين من إيجاب وقبول، وتنحصر شروط الفقه الإسلامي في صيغة الإيجاب والقبول في عقد الصلح في أن يكون الإيجاب والقبول بصيغة الماضي، كما هو الحال في أن يقول أحد الطرفين للآخر صالحتك فيرد الطرف الآخر وأنا قبلت، ولا يجوز أن يكون الإيجاب والقبول بصيغة الأمر كما هو الحال في قوله صالحني، كما لا يجوز أن يكون بصيغة المستقبل كما لو قال سأصالحك.
2- شروط طرفي عقد الصلح
يشترط الفقه الإسلامي أن يتوافر في كلاً من طرفي عقد الصلح بعض الشروط، ويمكننا أن نوجز تلك الشروط في:
- التكليف: ويقصد به أن يكون طرفي العقد متمتعاً بالعقل والبلوغ، بحيث إذا كان أحدهما صبياً – مميز أو غير مميز – أو مجنون فلا يكون الصلح الصادر منه صحيحاً.
- ولاية التصرف في المال: يلزم أن يكون كلاً من طرفي عقد الصلح متمتعاً بالولاية على المال، فإذا كان أحد طرفي الصلح تحت قاصراً وتحت الوصاية، فإن من يتمتع بإبرام عقد الصلح هو الولي الطبيعي عليه أو الوصي عليه باعتبارهم أصحاب ولاية التصرف في مال القاصر.
- أن يخلو الصلح من الضرر: ويقصد بذلك الشرط ألا يكون الصلح الذي يبرمه الولي أو الوصي فيه ضرراً واضحاً لمن هو ولي أو وصي عليه، فهذا الشرط يخص الصلح الذي يبرم عن الصغير فقط حفاظاً على مصلحته، أما إذا كان طرفي عقد الصلح بالغين فلهما إبرام عقد الصلح حتى ولو كان فيه ضرراً لأحدهما.
3- شروط محل عقد الصلح
يقصد بمحل عقد الصلح الحق الذي يتم التصالح عليه، ويستلزم الفقه الإسلامي توافر بعض الشروط في الحق المتصالح عنه، ويمكننا أن نوجزها في النقاط الآتية:
- أن يكون حقاً لإنسان سواء كان حقاً مالياً أو غير مالياً، والحق غير المالي كالقصاص الذي يجوز فيه الصلح[8].
- أن يكون الحق محل الصلح هو حقاً للمُصالح، أما إذا لم يكن هذا الحق يخصه أو يخص من يمثله أو ينوب عنه فلا يجوز منه التصالح عليه لكونه يصبح غير ذي صفة بالنسبة له.
- أن يكون الحق الوارد عليه عقد الصلح ثابتاً للمصالح، ويعد هذا الشرط استكمالاً للشرط السابق، فبجانب شرط أن يكون الحق المتصالح عليه هو حق للمُصالح، فإنه يلزم ايضاً أن يكون حقاً ثابتاً له وغير متنازع عليه.
- أن يكون الحق المتصالح عليه معلوماً علماً تاماً نافياً للجهالة لكلاً من طرفي التصالح، والحكمة من ذلك أنه لو كان مجهولاً لأحدهما سيكون محققاً للغرر الذي لا يجوز التعاقد في ظل تحققه.
4- شروط بدل الصلح
يقصد ببدل الصلح ما يتحصل عليه أحد طرفي عقد الصلح من الطرف الآخر نظير حقه المتصالح عليه، وقد اشترط الفقه الإسلامي في ذلك البدل الشروط التالية:
- أن يكون من الأموال المتقومة شرعاً، فلا يصلح أن يكون البدل مما جرى الشرع على تحريمه كالخمر أو الميتة، لكونها تخرج من دائرة الأموال شرعاً وتدخل في دائرة تحريم التعامل عليها.
- أن تثبت ملكية المُصالح للبدل، فيكون الصلح باطلاً متى تم نظير بدل ثبت بعد ذلك أنه مملوك لشخص آخر خلاف المُصالح الذي قدمه.
- أن يكون معلوماً علماً نافياً للجهالة شرعاً لطرفي عقد الصلح، لكون الجهل به من أحدهما يمثل غرراً يبطل العقد.
خامساً: الشروط القانونية لعقد الصلح
كما هو الحال في الفقه الإسلامي فقد اشترط المشرع الأردني مجموعة من الشروط التي يلزم أن تتحقق ليصح عقد الصلح، بجانب الأركان الأساسية لعقد الصلح باعتباره عقداً كسائر العقود الأخرى.
1- أركان عقد الصلح
باعتبار أن عقد الصلح يعد عقداً كسائر العقود الأخرى، فإنه يلزم لانعقاده أن يتوافر فيه الأركان التي يستلزمها انعقاد أي عقد، وهذه الأركان هي التراضي والمحل والسبب.
أ- التراضي
لم يشترط المشرع الأرني في عقد الصلح أن يتم إفراغه في شكل محدد، بل اعتبره عقداً ينعقد بتراضي طرفيه والتقاء وتطابق الإيجاب مع القبول، وإن كان يشترط لإثباته أن يكون مكتوباً فإن ذلك لا يجعل الكتابة ركناً من أركانه أو شرطاً من شروط انعقاده، بل هي مجرد شرطاً لإثباته فقط.
ويلزم أن يتوافر في التراضي نوعين من الشروط، النوع الأول هو شروط انعقاد، والنوع الثاني هو شروط صحة.
- أما شروط الانعقاد فتتمثل فيما نصت عليه القواعد العامة، والتي تتمثل في طريقة التعبير عن إرادة المتعاقدين والتي تستخدم في التعبير عن الإيجاب والقبول، والتوقيت الذي ينتج فيه هذا التعبير أثره، والتعاقد بين شخصين غائبين، وغيرها من الشروط الأخرى التي تمثل أحكاماً عامة للعقود.
- أما شروط الصحة فتتمثل فيما ورد بنص المادة رقم (648) من القانون المدني الأردني من أنه (1- يشترط فيمن يعقد صلحاً أن يكون أهلاً للتصرف بعوض في الحقوق التي يشملها عقد الصلح. 2- وتشترط أهلية التبرع إذا تضمن الصلح إسقاط شيء من الحقوق)، ومن هذا النص يتبين أن القانون قد اشترط في المُصالح أن يتمتع بأهلية الصرف متى كان محل عقد الصلح هو تصرف بعوض، كما اشترط فيه أن يتمتع بأهلية التبرع متى كان محل العقد هو تنازل بدون عوض.
كما نص المشرع في المادة رقم (649) من القانون المدني الأردني على أن (صلح الصبي المميز والمعتوه الماذونين صحيح ان لم يكن لهما فيه ضرر بين وكذا الحكم في صلح الاولياء والاوصياء والقوام)، أي أنه قد أقر لناقصي الأهلية من صبي مميز أو معتوه ممن صدر لهم الإذن بالتصرف بإبرام عقد الصلح، إلا أنه قيد صحة هذا العقد بألا يكون هناك ضرراً واضحاً لهم في ذلك.
ب- المحل
يقصد بمحل عقد الصلح الحق الذي يتم التصالح عليه، وقد اشترط فيه المشرع شرطين أساسيين وهما:
- ان يكون مما يجوز أخذ البدل في مقابله، فعلى سبيل المثال لا يجوز أن يكون هذا الحق دين ناتج عن المقامرة.
- أن يكون معلوماً لطرفي العقد علماً نافياً للجهالة متى كان يقتضي الصلح عليه أن يتم قبضه وتسليمه، وذلك منعاً لتحقق الغرر المبطل للعقد.
وقد قرر المشرع أن الأمر يستوي بشأن الحق محل الصلح سواء كان المدعى عليه بالحق قد أقره أو أنكره أو صمت فلم يقر أو ينكر، ففي كل تلك الأحوال يجوز أن يتم الصلح على هذا الحق.
ج- السبب
يعد السبب في عقد الصلح هو الهدف الرئيسي والمباشر الذي تم من أجله إبرام عقد الصلح، ويتمثل ذلك الهدف في إنهاء النزاع أو الخصومة القائمة بين الطرفين، والتي ينصب عقد الصلح عليها، ويعد أيضاً من قبيل السبب هو ما يتحصل عليه كل طرف في العقد من الطرف الآخر من جزء يتم التنازل عنه مما يدعي به حقاً له، فكما سبق وأن أشرنا أن كلاً من طرفي العقد يتنازل عن جزء من حقه المدعى به للطرف الآخر في العقد.
2- شروط عقد الصلح
تطلب المشرع الأردني بعض الشروط التي يلزم توافرها لصحة انعقاد عقد الصلح، وهذه الشروط منها ما يتعلق بالعاقدين وهي التي تناولناها عند الحديث عن أركان في الجزء (ا/أ) من هذا البند من المقال لذا فإننا نحيل إليها في هذا الشأن، وشروط تتعلق بالمُصالح عنه – محل العقد – وهو أيضاً تناولناه في الجزء (1/ب) من هذا البند فنحيل إليه هو الآخر في هذا الشأن، فلا يتبقى لنا سوى الشروط المتعلقة ببدل الصلح.
وقد اشترط المشرع الأردني في بدل الصلح أن يكون محدداً ومعلوماً لطرفي العقد، وذلك في حالة أن يكون هذا البدل إلى القبض والتسليم، أما إذا كان البدل لا يقتضي ذلك بحيث كان عيناً أو منفعة يمتلكها شخص من الغير، فيكون الصلح موقوفاً في نفاذه وترتيب آثاره القانونية على صدور إجازة له من هذا الغير، فعلى سبيل المثال لو تم تقديم بدل الصلح في شكل حق انتفاع بعين مملوكة لشخص آخر خلاف طرفي عقد الصلح، فإن ذلك الصلح يظل موقوفاً إلى أن يجيزه مالك تلك العين باعتباره هو صاحب حق التصرف فيها والانتفاع بها، فإن لم يجز هذا العقد يصبح العقد هو والعدم سواء.
سادساً: الآثار المترتبة على عقد الصلح في الفقه الإسلامي
بمجرد أن يتم إبرام عقد الصلح صحيحاً ونافذاً فإنه يرتب بعض الآثار الشرعية التي يمكن أن نوجزها في النقاط الآتية:
- يرتب عقد الصلح أثراً أساسياً ومباشراً وهو البراءة من الخصومة، حيث أن الغرض الرئيسي من إبرام عقد الصلح هو إنهاء النزاع والخصومة، فيعد ذلك هو أول الآثار التي تترتب على إبرام عقد الصلح.
- أن يصبح بدل الصلح مملوكاً للمدعي، حيث أنه قد تحصل عليه من المدعى عليه لإبرام عقد الصلح، وبالتالي يصبح مملوكاً له.
- أن يصبح المُصالح به مملوكاً للمدعى عليه، شريطة أن يكون هذا المُصالح به مما يمكن تمليكه.
- يصبح عقد الصلح معتبراً باقرب العقود وصفاً له، فإذا كان يقترب من عقد الإيجار فإنه يأخذ حكمه، وإن كان يفترب من عقد البيع فإنه يأخذ حكمه وهكذا.
- لا يجوز لأياً من طرفي عقد الصلح بعد انعقاده أن يرجع عنه، فلا يحق للمدعي أن يقيم دعواه عن الحق المتصالح عليه، ولا يجوز للمدعى عليه أن يطلب استرداد ما قدمه كبدل للصلح[9]، فعقد الصلح عقد لازم لا يجوز الرجوع فيه أو فسخه بعد تمام إبرامه.
- في حالة وفاة احد طرفي عقد الصلح بعد تمام انعقاده فإن المنع من الفسخ والرجوع فيه يمتد إليهم، ولا يجوز لهم المطالبة بفسخه أو المطالبة بالرجوع فيه.
سابعاً: الآثار القانونية المترتبة على عقد الصلح
حدد المشرع الأردني الآثار المترتبة على تمام إبرام عقد الصلح في نص المادتين (655) و(656) من القانون المدني، وتتمثل تلك الآثار فيما يلي:
- بمجرد تمام إبرام عقد الصلح يصبح المصالح (المدعي) مالكاً للبدل الذي تحصل عليه من المدعى عليه، ويسقط حقه الذي كان متنازعاً عليه، بحيث يحل البدل محل هذا الحق.
- يصبح عقد الصلح متمتعاً بالقوة الإلزامية لطرفيه، فلا يجوز لأياً منهما أن يرجع فيه بأي حال من الأحوال بمجرد تمام انعقاده.
- لا يحق لورثة أياً من طرفي عقد الصلح – بعد تمام إبرامه حال حياة مورثهم – أن يرجع في العقد، حيث أن مورثهم لم يثبت له هذا الحق وبالتالي يحظر عليهم ذلك.
- يكون للصلح أثر نسبي على الحقوق، بمعنى أن الصلح لا يشمل بآثاره سوى الحق الذي انعقد بشأنه الصلح، ولا يحسم سوى النزاع الذي يثور بشأن هذا الحق.
ونود أن نشير إلى أنه وعلى الرغم من أن القاعدة في عقد الصلح هي أنه عقد لازم لا يجوز لأحد طرفيه أن يرجع فيه، إلا أن هناك استثناء على تلك القاعدة يتمثل في تراضي طرفي العقد على إنهائه أو ما يعرف بالإقالة، ففي تلك الحالة ينتهي عقد الصلح، إلا أن جواز هذا الاستثناء مقيد بتحقق شرط هام وهو أن يكون عقد الصلح في حكم المعاوضة، أي أن يكون كل طرف من طرفيه قد تحصل من الطرف الآخر على مقابل متبادل كما هو الحال في أن يأخذ عقد الصلح حكم عقد البيع، أما إذا كان عقد الصلح قد أسقط بعض الحقوق لطرف دون عوض من الطرف الآخر فعندئذ لا يجوز الإقالة منه ويخرج من نطاق تطبيق هذا الاستثناء.
ثامناً: نماذج من أحكام محكمة التمييز الأردنية ذات العلاقة
1- حكم محكمة التمييز الأردنية بصفتها الحقوقية رقم 1265 لسنة 2022 والصادر بجلسة 28/2/1981، والمتضمن أنه (عقد الصلح هو تصرف قانوني يكون الغرض من إبرامه فض وإنهاء نزاع قام بالفعل بين طرفيه أو توقي نزاع محتمل، ولا يشترط لاكتساب العقد صفة الصلح أن يكون موضوعه نزاع اتخذ صورة الخصومة القضائية إذ هو يشمل أي نزاع تكون بين طرفيه سواء عرض على القضاء أم لا إذ العبرة هو أن يكون هناك خلاف قد نشب فعلاً أو محتمل وقوعه فيتم إبرام العقد لحسم هذا النزاع).
2- حكم محكمة التمييز الأردنية بصفتها الحقوقية رقم 325 لسنة 2023 والصادر بجلسة 12/6/2023، والمتضمن أنه (وحيث إن سند المخالصة تضمن استلام المدعي لمستحقاته المالية وأن المدعي وفي هذا السند قد أبرأ ذمة الشركة المدعى عليها إبراءً عاماً وشاملاً من أي حقوق عمالية أو أجور وأن هذا السند هو إبراء إسقاط وإبراء استيفاء من أي مطالبة أو حقوق عمالية وأن المدعي لم يسجل وفي هذا السند أي تحفظ بشأن أي مبلغ أو حق من حقوقه العمالية ولم يعترض عليه ووقعه بعد انتهاء عمله حراً مختاراً دون أي ضغط أو إكراه فإن هذا السند يعتبر بمثابة عقد صلح وفق أحكام المادة (647) من القانون المدني ولا يسوغ لهما أو لأي منهما أو لورثته من بعده الرجوع فيه).
تاسعاً: الخاتمة
يكتسب عقد الصلح أهميته من أهمية القصد منه والغاية التي يحققها، حيث يترتب عليه التوفيق بين الأفراد المتخاصمين، ويحقق الاستقرار في المعاملات، بجانب ما يمثله من سبيل ودي لإنهاء النزاعات والخصومات والحيلولة دون تفاقمها ووصولها إلى ساحات المحاكم، حتى وإن الكان هذا العقد قد أبرم بعد نشوب نزاع قضائي فهو يوفر على الخصوم جهود ونفقات ووقت، كما يرفع عن كاهل القضاء عبء تكدس الدعاوى القضائية.
[1] – سورة الشعراء – الآية رقم (155).
[2] – القاسم بن علي البصري – درة الغواص في أوهام الخواص – تحقيق: عرفات مطرجي – مؤسسة الكتب الثقافية – لبنان – 1998 – ص271.
[3] – أبو بكر الزبيدي – الجوهرة المنيرة – ط1 – المطبعة الخيرية – بدون بلد نشر – 1903 – الجزء الأول – ص151.
[4] – سورة النساء – الآية رقم (128).
[5] – سورة الأنفال – الآية رقم (1).
[6] – أبو داود السنجستاني – سنن أبي داود – تحقيق: محمد محي الدين – المكتبةو العصرية – لبنان – بدون عام نشر – الجزء الثالث – ص304.
[7] – وهبة الزحيلي – الفقه الإسلامي وأدلته – ط4 – دار الفكر – سوريا – بدون عام نشر – الجزء السادس – ص4332.
[8] – وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – الموسوعة الفقهية الكويتية: باب شروط الصلح – ط1 – دار الصفوة – مصر – بدون عام نشر – الجزء السابع والعشرون – ص 346.
[9] – لجنة علماء وفقهاء الدولة العثمانية – مجلة الأحكام العدلية – دون دار أو تاريخ نشر – الجزء الأول – المادة رقم (1556) – ص304.