العقد هو المنبع الأساسي لما ينشأ بين الأشخاص من حقوق والتزامات، لذلك فقد نال جانب كبير من اهتمام الفقه القانوني ومشرعي القانون في مختلف الدول، حيث تم تنظيمه ووضع الأحكام والضوابط التي تنظمه بصورة تحافظ على حقوق أطرافه ومصالحهم، كما تضمن احترامهم لما يترتب عليه من التزامات ومن أهم تلك الأحكام والضوابط هو ضرورة تمتع أطرافه عند إنشائه بإرادة حرة وواعية وسليمة تخلو من ثمة عيب من عيوب الإرادة
وتتعدد العيوب التي يمكن أن تشوب إرادة المتعاقدين فتخل بها وتفسدها، ومن أهم تلك العيوب هو عيب الاستغلال والذي اهتم غالبية مشرعي القانون بمعالجته في النصوص القانونية التي وضعوها، وسوف يكون هذا المقال منصباً على مناقشة عيب الاستغلال باعتباره أحد أهم عيوب الإرادة، وذلك في ظل ما ورد بالقانون المدني الأردني من أحكام.
أولاً: مفهوم عيب الاستغلال
ثانياً: التمييز بين عيب الاستغلال وعيوب الإرادة
ثالثاً: أركان عيب الاستغلال
رابعاً: الآثار القانونية المترتبة على عيب الاستغلال
خامساً: نموذج من أحكام محكمة التمييز الأردنية ذات العلاقة
سادساً: الخاتمة
أولاً: مفهوم عيب الاستغلال
قبل التعرض إلى الأحكام المنظمة لعيب الاستغلال يلزم علينا في البداية أن نوضح مفهوم الاستغلال والسند القانوني الذي يستند إليه.
1- التعريف بالاستغلال
على غرار سائر التشريعات الأخرى لم يضع المشرع الأردني تعريفاً لعيب الاستغلال في إطار مواد ونصوص القانون المدني، لذا فقد تولى الفقه القانوني مسألة التعريف به كما جرت العادة في هذا الشأن، لذلك فقد ظهر أكثر من تعريف للاستغلال بمكننا أن نذكر أهمها وأبرزها في النقاط الآتي بيانها:
- الاستغلال هو انعدام التوازن الواضح أو غير المتعارف عليه بين ما يمنحه أحد المتعاقدين وبين ما يتحصل عليه، ويتم تقدير ذلك عند إبرام العقد، ويكون ذلك ناتجاً عن استغلال طرف منهما لحالة ضعف متحققة لدى الطرف الآخر[1].
- كما عرف الاستغلال بأنه حالة يرى فيها متعاقد أن المتعاقد الآخر ينتابه ضعف من أمر ما، فيقوم بانتهاز فرصة هذا الضعف ويقوم بالتعاقد معه تعاقداً يتضمن غبناً فاحشاً، بحيث ينعدم التعادل والتوازن بين الالتزامات التعاقدية الخاصة بكلاً منهما، ويتم تقدير عدم التعادل والتوازن في الوقت الذي يتم فيه انعقاد العقد وإبرامه، ويكون استغلال حالة الضعف تلك هو الدافع الرئيسي لإبرام الطرف الذي تم استغلاله لهذا العقد[2].
- وعرف لدى البعض الآخر بأنه اتجاه إرادة شخص إلى القيام باستغلال ما يصيب غيره من ضيق أو ظروف تضعفه ليدفعه إلى التعاقد معه تعاقداً يتسم بالغبن الفادح لم يكن ليقوم به إلا في ظل ما وقع عليه من ضغط[3].
وبمطالعة تلك التعريفات يتبين لنا أنها قد اتفقت في تعريف الاستغلال على أن الاستغلال يدور في فلك حدوث عدم توازن وتباين فاحش بين الالتزامات المترتبة على العقد في حق كل من طرفيه، وأن جوهر الاستغلال يتمثل في سلوك غير أخلاقي يستهدف الإخلال بميزان العدالة بين التزامات طرفي العقد، وهو ما يجعل الاستغلال يتشابه مع الغبن في أن كلاهما يترتب عليه الاختلال في التوازن بين التزامات طرفي العقد، في حين أنهما يختلفان في أن الغبن ينصب على الجانب المادي فقط، بينما الاستغلال يقوم على جانبين أحدهما الجانب النفسي للمتعاقد الذي يصيبه الغبن والآخر نية وقصد المتعاقد معه المتجهة لاستغلال حالة الضعف الواقع فيها.
2- السند القانوني للاستغلال
من خلال تعريف الاستغلال يمكننا أن نتبين أن مفهومه يتشكل من عنصرين وهما العنصر المادي والعنصر النفسي، فالعنصر المادي له هو عدم التوازن بين التزامات كلاً من طرفي العقد، والعنصر النفسي المتمثل في نية أحد طرفي العقد لاستغلال الظروف المحيطة بالطرف الآخر والتي تصيبه بالضعف لدفعه إلى التعاقد، وبالتالي لا يجوز التعامل مع كل عنصر منهما بشكل مستقل، بل يجب أن يتم التعامل معهما مجتمعين حتى يمكننا القول إننا نتعامل مع حالة استغلال، لكون التعامل مع العنصر المادي فقط سيجعلنا أمام حالة غبن وليس استغلال.
ولعل الازدواج في تكوين حالة الاستغلال لقيامه على عنصرين هو ما يمنحه طبيعة خاصة تجعل من الصعوبة بمكان أن نتمكن من الوقوف على العنصر الذي يمكن الاستناد إليه للطعن على العقد، ولعل ذلك هو ما جعل القانون المدني الأردني يخلو من وضع نظرية عامة للاستغلال، والاقتصار في هذا الشأن بما جاء في نص المادة رقم (129/2) من القانون المدني الأردني رقم 43 لسنة 1976 بخصوص تصرفات المحجور للغفلة أو السفه من أنه (2- أما تصرفاته قبل الحجر فمعتبرة إلا إذا كانت نتيجة استغلال أو تواطؤ)، وما جاء في نص المادة رقم (538/1) من ذات القانون بشأن بيع السلم من أنه (اذا استغل المشتري في السلم حاجة المزارع فاشترى منه محصولا مستقبلا بسعر أو بشروط مجحفة إجحافا بينا كان للبائع حينما يحين الوفاء ان يطلب الى المحكمة تعديل السعر أو الشروط بصورة يزول معها الإجحاف وتأخذ المحكمة في ذلك بعين الاعتبار ظروف الزمان والمكان ومستوى الأسعار العامة وفروقها بين تاريخ العقد والتسليم طبقا لما جرى عليه العرف).
وهو ما يمكننا معه أن نتبين أن تقرير المشرع الأردني لعيب لاستغلال – وإن اقتصر في ذلك على حالتين فقط – يستند إلى رغبته في توفير الحماية القانونية للمتعاقد الذي يقع رهناً لظروف تصيبه بالضعف وتدفعه للتعاقد كالسفيه وذو الغفلة، وتدفع عنه استغلال المتعاقد الآخر سيء النية الذي يرغب في استغلال الضعف الذي يصيبه، وذلك باعتبار المتعاقد الذي يتم استغلاله هو متعاقد ذو إرادة غير واعية، مما يخضع تصرفه المشوب بعيب الاستغلال خاضعاً لأحكام عيوب الإرادة[4].
مما يمكننا معه أن نستخلص أن السند القانوني لعيب الاستغلال هو اعتباره الضمني كعيب من عيوب الإرادة، فإن كان المشرع الأردني لم يدرجه صراحة ضمن عيوب الإرادة، إلا أنه قد أخضعه إلى الأحكام التي تخضع لها عيوب الإرادة، بما يعد إقراراً ضمنياً منه باعتبار عيب الاستغلال أحد عيوب الإرادة.
ثانياً: التمييز بين عيب الاستغلال وعيوب الإرادة
قد يتداخل عيب الاستغلال مع بعض عيوب الإرادة ويصعب تمييزه عنها نظراً لتشابهه معها في بعض الأوجه، إلا أنه يظل محتفظاً بخصوصيته وطبيعته التي تجعله يختلف مع كل عيب منها في بعض الأوجه الأخرى، وسوف نتناول أوجه الاختلاف بين الاستغلال من جهة والإكراه والتغرير من جهة أخرى في هذا البند من المقال، وإن كنا لن نتعرض للتمييز بين الاستغلال والغبن باعتبارنا قد أوضحناه سلفا في البند (أولاً/1) من هذا المقال.
1- الاستغلال والإكراه
الإكراه وفقاً لتعريف المشرع الأردني له بنص المادة رقم (135) من القانون المدني الأردني هو (إجبار الشخص بغير حق على أن يعمل عملاً دون رضاه ويكون مادياً أو معنوياً)، وهو ما يتفق مع تعريف الفقه القانوني للإكراه على أنه قيام شخص باستخدام وسائل غير مشروعة من شأنها أن تخلق في وجدان شخص آخر رهبة تدفعه إلى إبرام العقد دون توافر الرضا لديه بذلك[5].
وإن كان الإكراه يتشابه مع الاستغلال في انهما يقومان في ظل توافر حالة من الضغط التي يمارسها متعاقد على المتعاقد الآخر، إلا أنهما يختلفان من حيث موقف المتعاقد مرتكب عيب الاستغلال، ففي الإكراه يقوم المتعاقد المُكرِه بارتكاب فعلاً إيجابياً بخلق الظروف التي تتسبب في إجبار الطرف الآخر على التعاقد، بينما الشخص المستغِل في الاستغلال يكون موقفه سلبيا لكونه لا يقوم بأي فعل في خلق الظروف التي تضعف المتعاقد الآخر، ولكن موقفه يقتصر على استغلال تلك الظروف والاستفادة منها حال تحققها.
2- الاستغلال والتغرير
يقصد بالتغرير كما جاء بنص المادة رقم (143) من القانون المدني الأردني (أن يخدع أحد العاقدين الآخر بوسائل احتيالية قولية أو فعلية تحمله على الرضا بما لم يكن ليرضى به بغيرها)، مما يتبين معه أن التغرير يتحقق عن طريق ممارسة المتعاقد لوسائل وطرق احتيالية تدفع المتعاقد الآخر على إبرام التعاقد معه، وبالتالي كما هو الحال في الإكراه فإن المتعاقد يقوم بنشاط إيجابي – قولي أو فعلي – ليضغط به على الطرف الآخر ليتعاقد معه، بينما في الاستغلال يقتصر الطرف المستغل على استغلال الظروف التي تضغط على المتعاقد الآخر دون أن يكون له أي دخل في تحققها.
ثالثاً: أركان عيب الاستغلال
حتى يمكننا القول بوجود حالة من حالات الاستغلال فإنه يلزم أن يتحقق العنصرين المكونين له وهما العنصر المادي والعنصر المعنوي، وهذين العنصرين يمثلان أركان الاستغلال الذي يصيب المتعاقد، ولابد لتحقق الاستغلال أن يتحقق هذين الركنين معاً بحيث لا يغني تحقق أحدهما عن تحقق الآخر، وسوف نتناول في هذا البند كل ركن منهما بشكل مفصل.
1- الركن الأول: العنصر المادي
يتمثل الركن الأول للاستغلال في العنصر المادي له، ويتمثل هذا الركن في الاختلال الفادح والفاحش بين الالتزامات المتبادلة بين الطرفين المبرم بينهما العقد، فلا يتحقق هذا الركن متى كان الاختلال بسيطاً أو متعارف عليه في مثل تلك العقود أو يمكن التغاضي عنه، لذلك حرصت التشريعات التي نصت على عيب الاستغلال على أن تقرن الاختلال الناتج عن الاستغلال بوصف يدل على فداحته وجسامته.
ويعد ذلك الركن هو الركيزة التي يقام عليها معنى الاستغلال، لاسيما وأن الاختلال البين بين الالتزامات التعاقدية هو الذي يخرج حالة الاستغلال من شكلها المعنوي المحسوس إلى شكلها المادي الملموس، فلا يمكن تبين حالة الاستغلال واكتشافها إلا عن طريق الركن المادي لها، ومن خلال ذلك يمكن الوصول إلى الظروف التي ضغطت على الطرف الذي تم استغلاله ودفعته للتعاقد.
وحتى يمكن أن نصل إلى مدى تحقق حالة الاختلال وعدم التعادل بين التزامات طرفي العقد يلزم أن يتم الموازنة والمقارنة بين التزامات الطرفين للوقوف على ما إذا كان المتعاقد المستغل قد حقق استفادة من عدمه، وما إذا كان الطرف الذي تم استغلاله قد أصيب بضرر أم لا، والمقارنة بين كلاً من تلك الاستفادة وهذا الضرر للوقوف على تحقق الاختلال من عدمه وبالتالي تحديد ما إذا كان هناك استغلال أم لا.
ونظراً لما تتصف به المعاملات والعقود التجارية من وجود مساحة للكسب والمساومة بين طرفيها فإن الفارق بين الاستفادة والضرر حال تحققهما في العقد لا يعد بمثابة استغلال طالما كان في النطاق المعقول والمتعارف عليه في مثل تلك العقود والمعاملات، فمن الغالب في معظم العقود أن يكون هناك كسب أو ربح لأحد طرفيه قد يفوق ما يحققه الطرف الآخر خسارة، ولكن الفارق بينهما يكون معقولاً، أما إذا كان ذلك الفارق فاحشاً لدرجة يُغبن فيها أحد طرفي العقد فإن ذلك الفارق يصبح فاحشاً ويدخل في إطار اعتباره ركناً مادياً لعيب الاستغلال.
وقد يظهر الاستغلال في صورة أخرى خلاف صورة الفارق بين الفائدة والضرر، حيث قد يظهر في صورة شروط مجحفة وغير عادلة يتم تضمينها في العقد بحيث تغلب مصلحة أحد المتعاقدين على الآخر بصورة فاحشة، لاسيما وأن تلك الشروط سوف تحقق فائدة للمتعاقد الذي تقررت لصالحه كما ستصيب المتعاقد الآخر بخسارة تجعل الفارق بينهما فاحش، وبالتالي يتحقق معها عيب الاستغلال.
وقد اتفق رجال الفقه القانوني على أن كافة عقود المعاوضات تخضع لعيب الاستغلال، وذلك لكونها تشكل السواد الأعظم من العقود التي تبرم على أرض الواقع العملي في المعاملات التي تتم بين أفراد المجتمع، ولكن الخلاف بينهم كان بشأن عقود المعاوضات الاحتمالية والتي يطلق عليها مسمى “عقود الغرر”، حيث ذهب جانب منهم إلى أن تلك العقود تخضع لعيب الاستغلال باعتبارها عقود يمكن الوقوف فيها على مدى تناسب الالتزامات المتقابلة من عدمه، في حين ذهب الجانب الآخر إلى أن تحديد تناسب الالتزامات المتقابلة في تلك العقود يعد من الأمور بالغة الصعوبة وإن لم يكن مستحيلاً، وبالتالي اتجه هذا الجانب إلى القول بعدم خضوع تلك الطائفة من العقود لعيب الاستغلال[6].
وفي رأينا الشخصي أن الاتجاه الأول هو الأولى بالتأييد، حيث يمكن أن تخضع عقود المعاوضات الاحتمالية لعيب الاستغلال متى كانت تتضمن وجه من أوجه الإفراط في الاستفادة من الحاجة التي يقع تحتها المتعاقد.
أما عن عقود التبرع فهي تتم متضمنة التزام من طرف واحد وهو المتبرع دون أن يكون هناك التزام واقع على عاتق الطرف الآخر المتبرع له، وبالتالي لا توجد التزامات متقابلة يمكن المقارنة بينها للوقوف على مدى تحقق الركن المادي للاستغلال من عدمه.
وإن كان ذلك لا يحول دون خضوع عقود التبرع لتطبيق عيب الاستغلال، حيث يمكن أن يكون المتبرع قد قام بالتبرع بسبب استغلال المتبرع له ظروف ما لدى المتبرع ودفعه إلى القيام بذلك التبرع، فيكون الفارق فاحش لكون التبرع قد تم بدون مقابل، ويمكن الوقوف على مدى تحقق ذلك الاستغلال عن طريق ظروف المتبرع وشخصيته والظروف المحيطة بإبرام عقد التبرع بوجه عام.
2- الركن الثاني: العنصر النفسي
لا يكتفى في شأن تحقق عيب الاستغلال بتحقق الركن المادي فقط، ولكن يلزم أيضاً أن يتحقق الركن النفسي المتمثل في وجهين، الوجه الأول يتمثل في حالة الضعف التي يقع فيها المتعاقد فتؤثر سلباً على إرادته في التعاقد، والوجه الثاني هو ما يقوم به المتعاقد الآخر من استغلال لحالة الضعف الذي أصابت المتعاقد الآخر بهدف دفعه إلى إتمام التعاقد.
ولا يشترط مشاركة المتعاقد في تحقيق الحالة التي تسبب الضعف الذي يصاب به المتعاقد الآخر، بل يكفي لتحقق الركن النفسي للاستغلال أن يكون الطرف المستغل على علم وإدراك بوجود تلك الحالة ومدى تأثيرها على الطرف الآخر، وأن تتوافر لديه نية وقصد استغلال تلك الحالة لدفع المتعاقد الآخر على التعاقد، ويعد شرط القصد والتعمد والنية المبيت لاستغلال تلك الحالة هو شرطاً أساسياً لتحقق الركن النفسي للاستغلال، فإذا كان هذا المتعاقد حسن النية بحيث لا يعلم بوجود تلك الحالة من الضعف لدى المتعاقد الآخر عند التعاقد، ولم يبيت النية لاستغلاله، فلا يتحقق عيب الاستغلال في تلك الحالة حتى وإن تحقق في هذا العقد تفاوت كبير وغبن فاحش في الالتزامات المتبادلة.
وكما سبق وأن أوضحنا فقد تعرض المشرع الأردني إلى حالة وحيدة من الضعف والتي تُلم بالمتعاقد وتدفعه ليقع ضحية للاستغلال في التعاقد ويتحقق معها الركن النفسي للاستغلال، وتتمثل تلك الحالة في بيع السلم المنصوص عليها في المادة (538/1) من القانون المدني، وهي حالة استغلال المشتري في عقد السلم لحاجة ألمت بالمزارع، فيقوم باستغلالها ويشتري منه المحصول المستقبلي بثمن بخس أو بشروط مجحفة.
رابعاً: الآثار القانونية المترتبة على عيب الاستغلال
كما سبق وأن أوضحنا فإن المشرع الاردني لم يضع نظرية عامة للاستغلال في القانون المدني، بل اقتصر في ذلك على تنظيم الاستغلال في حالتين فقط وهما حالة تصرفات السفيه وذو الغفلة، وحالة بيع السلم الزراعي، لذلك فسوف نتعرض لآثار الاستغلال في هاتين الحالتين وفقاً لأحكام القانون الأردني.
1- الآثار القانونية للاستغلال في تصرفات المحجور للغفلة والسفه
وفقاً لما نصت عليه المادة رقم (129/2) من القانون المدني الأردني فإن تصرفات المحجور عليه للغفلة أو للسفه قبل الحجر تكون معتبرة، واستثنى من ذلك أن تكون تلك التصرفات قد تمت نتيجة استغلال أو تواطؤ، إلا أنه لم ينص على جزاء إبرام تلك التصرفات قبل الحجر وفي ظل قيام سبب الاستغلال، حيث سكت ولم يضف الجزاء المترتب على ذلك.
فإن أخذنا بالقياس اللفظي على الحكم المقرر للأصل وهو إبرام التصرفات قبل الحجر ودون تحقق الاستغلال أو التواطؤ فسنجد أن المشرع قد قرر أن تلك التصرفات معتبرة، وبالتالي فإن ما يستثنى منها من تصرفات تمت قبل الحجر، ولكن في ظل تحقق الاستغلال أو التواطؤ فسيكون حكمها أنها تصرفات غير معتبرة، وهو ما يجعل الحكم الخاص بها غامضاً لاسيما وأن مصطلح “غير معتبرة” لا يدل على المقصود بها، فهل هي باطلة، أو مفسوخة، أو فاسدة، أو ماذا.
إلا أن الفقه قد رأى أن تلك التصرفات التي تتم قبل الحجر وتصاب بعيب الاستغلال تخضع للأحكام التي تخضع لها تصرفات الصبي المميز، فتعد تصرفات باطلة متى كانت تحقق ضرراً محضاً له، بينما تعد تصرفات متوقفة على إجازة الولي أو الوصي متى كانت من التصرفات التي تدور بين النفع والضرر[7].
2- الآثار القانونية للاستغلال في بيع السلم الزراعي
أما بالنسبة لتحقق الاستغلال في عقود السلم الزراعية فإن ذلك – ووفقاً لنص المادة (538) من القانون المدني الأردني – يترتب عليه أحقية البائع (المزارع) عند حلول أجل الوفاء أن يلجأ إلى المحكمة صاحبة الاختصاص بدعوى قضائية يطلب فيها التدخل لتعديل الثمن المتفق عليه أو تعديل ما تضمنه العقد من شروط مجحفة بحقه ليصبح الثمن أو الشروط مناسبة، ويكون من حق المحكمة التعديل وفقاً لظروف الزمان والمكان الذي انعقد فيها العقد، وأيضاً بالنظر إلى الأسعار السائدة في الأسواق لذلك النوع من المحاصيل.
وعلى صعيد آخر يترتب على تحقق عيب الاستغلال أحقية المشتري في رفض التعديل الذي تصل إليه المحكمة في شأن الثمن الوارد بالعقد أو الشروط المجحفة المذكورة فيه، وعندئذ يقوم المشتري باسترداد الثمن الذي سدده للبائع، ويحق عندئذ للأخير أن يقوم بعرض محصوله للبيع على من يشاء.
خامساً: نموذج من أحكام محكمة التمييز الأردنية ذات العلاقة
حكم محكمة التمييز الأردنية بصفتها الحقوقية رقم 346 لسنة 2014 والصادر بجلسة 7/8/2014 والمتضمن أنه ( وحيث إن المقصود بالاستغلال أن يكون الغير عالماً بحالة السفه فيعمل على الاستفادة منها وذلك بأن يدفع السفيه إلى تصرفات يستغله بها كي يحصل على ميزات تجاوز الحد المعقول، وحيث تبين ومن خلال البينات المقدمة لا سيما البينة الشخصية التي بينت ان حالة السفه كانت واضحة على شقيق المدعية لا سيما والمدعى عليه من جيرانه والمتعاملين معه منذ فترة طويلة، وقد أجمعت آراء الفقه بأن (الغبن) هو المظهر المادي للاستغلال وبما إن هذا الغبن وبالتالي ثبوت الاستغلال لا يمكن تبينه وإثباته في هذه الدعوى إلا من خلال الخبرة وذلك لتحديد ثمن المثل للعقار موضوع الدعوى بتاريخ البيع كي تقدر المحكمة فيما إذا كان هناك استغلال من قبل المدعى عليه شقيق المدعية في شراء العقار موضوع الدعوى).
سادساً: الخاتمة
على الرغم من أهمية وخطورة الاستغلال كعيب من العيوب التي تضرب العقود في أساسها، إلا أننا نجد أن المشرع الأردني لم يتناوله بنظرية عامة تحكمه وتضبطه في القانون المدني الأردني، واكتفى في هذا الشأن بتناوله في معرض حديثه عن التصرفات التي يجريها السفيه وذو الغفلة قبل الحجر وفي بيع السلم، لذلك فإننا نرى وجود ضرورة ملحة لتعديل القانون المدني بتخصيص جانب منه لطرح نظرية عامة للاستغلال تشمل تنظيمه بشكل صريح باعتباره عيب من عيوب الإرادة التي قد تصيب أي نوع من أنواع العقود وليس أنواع محددة منها.
[1] – حسن توفيق – نظرية الاستغلال في القانون المدني المصري – منشأة المعارف – مصر – 1966 – ص10.
[2] – عبد الفتاح عبد الباقي – موسوعة القانون المدني المصري: نظرية العقد والإرادة المنفردة دراسة مغمقة ومقارنة في الفقه الإسلامي – بدون دار نشر – مصر – 1984 – ص 402.
[3] – المحمدي عيسى – النظرية العامة للاستغلال في الفقه الإسلامي: دراسة مقارنة – دار النهضة العربية – مصر – 2003 – ص293.
[4] – ياسين الجبوري – الوجيز في شرح القانون المدني الأردني: نظرية العقد – دار وائل – الأردن – المجلد الأول – ج1 – 2013 – ص324.
[5] – عدنان السرحان ونوري خاطر – شرح القانون المدني: مصادر الحقوق الشخصية “الالتزامات” – ط1 – دار الثقافة – الأردن – 2005 – ص142.
[6] – حسن توفيق – المرجع السابق – ص437.
[7] – ياسين الجبوري – المبسوط في شرح القانون المدني: نظرية العقد – دار وائل – الأردن – المجلد الأول – ج2 – 2002 – ص238.
عقد الرهن التجاري
يعد عقد الرهن التجاري والذي يسمى باللغة الإنجليزية Commercial Mortgage Contract واحداً من الوسائل التي…
الاشتراك في الجريمة
الاشتراك بارتكاب الجريمة الاشتراك الجرمي، إن الجرائم عادةً ما ترتكب من قبل شخص واحد، لكن…
عقد الوكالة
عقد الوكالة في القانون الأردني يُعد عقد الوكالة من العقود التي تمثل مظهرًا من مظاهر…
أحكام الإعسار
في هذا المقال سنبين أحكام الإعسار وفقا لقانون الإعسار الأردني الجديد رقم 21 لسنة 2018، …
الاعتراض على الأحكام
الاعتراض عكس الاتفاق، وهو الشعور بعدم الرضا، والاعتراض بالمعنى القانوني وهو طريق من طرق الطعن…
الاقتراع وكيفيته وفق قانون الانتخاب
الاقتراع وكيفيته الاقتراع له صلة وثيقة بعملية الانتخاب ،فالانتخاب هو جزء من الاقتراع ، فالاقتراع…